بينما أفتش عن مكاني الذي حددته تذكرة سفري،دوت منبهات شديدة القوة،
تكاد تشبه الصيحة.أرعبتني،أزعجت مسمعي،معلنة بداية رحلتي،ومستأنفة رحلات من سبقوني.بدت محطة مدينتي تبعد عن بصري،وكأنها هي من ترحل.سار القطار وفيا لمساره،ملازما لسكته التي ألفها لأجيال وأجيال،قاطعا مسافاتها،مارا بإشاراتها،بمنعرجاتها وبجسورها.فمن حين لآخر، يطلق صيحة كأنها تحية خالصة،أو نداء، أو تلويح لمن يراهم ويرونه.فكلما سافرت،ينتابني مرارا الشعور بالنزول قبل الأوان؛ قبل الوصول إلى المحطة التي أقصدها،كي أعيش لحظة ربما لم أتوقعها،وربما قد يكون وقعها على نفسيتي أفضل؛وكي أتمرد أيضا على نظام الحياة.كي أخرج من قوقعة رتابته؛كي أشاهد أشياء عن قرب،وكي أتأملها بوجداني،لا بلمحة خاطفة تجرها عربات القطار.طالت الرحلة،وطال المسار.وأنا لا زلت جامدا في مكاني،أؤلف صفحة من صفحات روايات السفر...أدونها عبر ذاكرتي...أختزن أحداثها في مخيالي الذي لطالما ثبت في مكانه،فيسترجع ذكرياته بسهو،وبانسيابية سريعة،خاطفة للزمن،عادت بي إلى الخلف للحظات تقاس بالعقود.في حين،قطار رحلتي يتقدم رويدا رويدا نحو محطاته،
منبها الكل بصوت رخيم عبر مكبر الصوت،إلى وقت استراحته،والتي يتنفس فيها الصعداء.بينما الجامدون في مقاعده،يكتمون الأنفاس، بل تكاد صدورهم تنفجر،وكأنهم هم من يحملون ثقله.
نبرات متقنة الإيقاع لطقطقات أحذية أنيقة،تنتشر أصواتها عبر ممر العربات الضيق،وكأنها نوطات لمعزوفة ألف لحنها،وعزفها بمهارة شخص مرهف الأنفاس،وضحكات بريئة،عريضة
لفتاة تحمل معنى الحياة؛
وكذا صراخ لرضيع أربك أمه لدقائق معدودات.كلها أصوات إنسجمت فيما بينها، فجعلتني أستفيق من سهوي؛جعلتني أدرك أني بلغت محطتي؛بل جعلتني أتذكر سبب السفر.
بقلم ذ.
عبدالرحيم المعيتيق.