samedi 15 mars 2025

الجـزء العـاشر من روايتي *صفـحـة من دفـتر قـديم*

(في رحـاب "مقـهى بّـا عـلاّل")

فاطمـة لغـبـاري // الربـاط

••• في تلك الليلـة، عندمـا أغلقـت دفـتري القـديم، شعـرت كأنني أودعـت جـزءا من روحـي بين صفحـاتـه، كأن عبـق درب السلطان لا يزال يلتـصق بـي، وكأن صـدى خطواتنـا على الأرصفـة لـم يـزل يتـردد في مسـامـعي، والأزقـة تـأبـى أن تودعـنـا بعــد. 
بينمـا كـنت أغـفـو ببـطء، اخـترق رنـين الهاتـف سكـون اللـيل .. كان "حـسن".
جـاءني صوتـه دافـئـا، كنسمـة رقيقـة تـلامـس روحـي في لـيل بـارد.
 
"فـاطمـة، لم أستطـع النـوم قبـل أن أسمـع صـوتك مجـددا"

ابتسمـت، كأن صوتـه كان خـيطا من النـور يشـق عـتمـة المسافـة؛ تنهـدت برقـة وهمسـتُ بصوت خـافـت، كأنني أخـشى أن أوقـظ اللـيل من سبـاتـه :

"وأنـا أيضـا، عقـلي مـا زال يهيـم في أزقــة درب السلـطان، كأنني تركـت جـزءا مـني هنـاك"

"وهل ستكتبيـن عـني في دفـترك الليلـة؟"

"بـل بـدأت بـالفعــل .. وكيف لي أن أنسـى ليلـة كهـذه؟"

سـاد صمـت بيننـا لحـظة، لكـنه لـم يكن صمـت  الفـراغ، بـل ذلك الصمـت الذي يشبـه احـتضانـا خـفيـا، حـيث تتحـدث الأرواح دون كلمـات.
 
ثـم همسـتُ بصـوت حـالم :

"أتعلـم، يـا حـسن؟ هنـاك شـيء فيك يجعـلني أرى العـالم من زاويـة مختلـفة؛  أكـثر دفـئـا، أكـثر وضوحـا"

"وأنـتِ تجعـلينني أعـيش اللحظـة بكل تفـاصيلهـا، دون أن أخـشى فـواتهـا.
حـين نلتـقي مجـددا، سأعـوضكِ عن كل لحـظة غـيـاب .. أعـدك."  

استسلمـت لِوقْـع كلمـاتـه، وكأن صوتـه يخـتصر المسافـة بيننـا، فأحسسـت بـدفء حـضوره يمـلـؤني.
وبعـد أن أنهـينـا المكالمـة، ظللـت أحـدق في الدفـتر، لكنني لـم أعـد أراه مجـرد صفـحـات بيضـاء، بـل نـافـذة مشرعـة نحـو مستقـبل قـد يجمعـنـا معــا.

  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ  ـــــ

••• مضـى أسبـوع على لقـائنـا الأخـير. 
وفي صبـاح يـوم السبـت، استفقـت على صوتـه من جـديد.

"صبـاح الخـير حـبيبتي الغـاليـة  
– مـا رأيك في لقــاء آخـر؟ 
هذه المـرة، سآخـذكِ إلى مكان آخـر .. من ذاكـرتي."

وافقـت بحمـاس، وأنـا على أتـم استعـداد لخـوض مغـامرة جـديدة برفقـته، ثـم أعـددت نفـسي، كمـا لو أنني أتهيـأ للقــاء مع الزمـن ذاتـه. 
بينمـا كان الهـواء مشبـعـا بنسـائـم ربيعـية، توجهـت إلى المحـطة، وركبـت القـطار، وعندمـا وصلـت إلى الدار البيضـاء، استقـلت سيـارة أجـرة متجـهة نحـو درب السلطان، حـيث كان  ينتظرني في إحـدى الزوايـا، مستنـدا إلى سيـارتـه، عـينـاه كانت تحـملان بريقــا يشبـه ابتسـامـته تلك .. ابتسـامـة رجـل يحـمل في قلـبه وطنـا من الحكايات.
قـادني عـبر الأزقـة العـتيقـة، كأننـا نتوغـل في دهـاليز الذاكـرة، حتى وقفـنـا أمـام بـاب خشـبي قـديم،
تعلـوه لافـتة بـاهـتة تحـمل بحـروفهـا المتـآكلـة اسـم : "مقـهى عـلاّل" قبـالـة محـكمـة الحـبوس، حـيث تتـراكم الحكـايـات كمـا تتـراكم القضـايـا.
لكن المكان لـم يكن مجـرد مقـهى، بـل نـافـذة مشرعـة على المـاضي.
عـند المدخـل تحـديدا، كان يجـلس رجـل سبعـيني يُلـقّـب بــ " بّـا عـلاّل"، بـدا وكأن الزمـن قـد نحَـت ملامحـه بحكمـة شـوارع درب السلطان. 
ابتسـم ابتسامـة دافـئة كمـن يحـيّي زائـرا طـال غيـابـه وقـال :

"أخـيرا جـئت يـا حـسن ! ومعـك ضيفـتك"

نظـرت إلى "حـسن" بدهـشة، لكنـه اكتـفى بالجلـوس وسحـب لي كرسيـا بجـانبـه.

"يبـدو أنكَ تعـرفـه جـيدا؟"

ابتسـم وهو يتأمـل المكان بعـينين يملـؤهمـا الحـنيـن وقـال : "أكـثر ممـا تتخـيلـين"

بعـد برهـة، جـاءنـا "بّـا عـلاّل" حـامـلا قِـدحَـيْن من الشـاي، ثـم جلـس قبـالتنـا مشبكـا يـديـه، كـمـن يتهيـأ لسـرد حكايـة قـديمـة.
 
همـس لي "حـسن" بصـوت خـافـت وهو يحـدق في المكان، كمـا لو كان يعـيد إحـيـاء شـيء قـديم داخلـه :

"بـّا عـلاّل" ليـس مجـرد عجـوز يُعـد الشـاي، إنـه كتـاب مشـرع على مـاضي درب السلطان.
راقـبته بصمـت وهو ينغمـس في تـأمـل زوايـا المقـهى، وكأن روحـه تبحـث في عمـق الجـدران عن آثـار ذاكـرة غـابـرة؛ وراح يسـرد لي ذكـريـاتـه في ذلك المكـان، مستحـضرا كـيف كان المقهـى روحَ الرجـاويين، ومـلاذَ الحـالمـين.

احتسـيت رشفـة من الشـاي وعـينـاي تتـأملان "بّـا عـلاّل" ذلك الوجـه الـذي يحـمل بين تجـاعـيده أسـرارا كـثيرة، تنهّــد بصـوت خـافـت، ثـم قـال لي بنبـرة يملـؤهـا الحـنين :  
"أنـا أعـرف حـسن مـنذ زمـن بعــيد ... بعــيد جـدا."  
فجـأة، دخـل رجـل عجـوز يحـمل آلـة العـود، واتخـذ مجـلسـا في الزاويـة، وبـدأ يعـزف لحـنـا قـديمـا، لـم يكـن مجـرد لحـن، كان ذاكـرة مسمـوعـة.
نظـرت إلى "حـسن" بدهشـة، وأخـبرني أن ذلك العجـوز هو أحـد آخـر حُـمـاة التـراث الفـني في درب السلطان، يحـمل بين أنـاملـه أنغــام المـاضي.  
أدركـتُ حينهـا أنني لـم أزر مقـهى "عـلال" فحـسب، بـل دخـلتُ جــزءا من حـيـاتـه.

عندمـا حـان الرحـيل، استوقفـتْ عـينـاه لوحــة قـديمـة معلقـة على الجـدار، تُظهـر فريـق الرجــاء البيضـاوي في إحـدى مبـاريـاتـه التـاريخـية؛ توقـف لِلحـظة، كأنهـا تنـاديـه من أعمـاق الذكـريـات.

سألـته بلطـف: 
"حـسن ! مـا الـذي أثـار انتبـاهـك في هذه اللوحـة؟"

أجـابني، وصوتـه يشـوبـه الحـنيـن: 
"هذه اللوحـة، تذكـرني بنهـائي كـأس العـرش عـام 1974، عـندمـا فـاز الرجــاء بـأول لقــب لـه بعـد هـدف من اللاعـب "العـربي"، كانت فرحـة لا تـوصف، والاحـتفـالات عمـت كل أرجـاء الـدار البيضـاء."

ابتسمت قـائلـة لـه : 
"أدركـت الآن لمـاذا يحـمل هـذا المكان، وهذه اللوحـة مكانـة خـاصة في قلـبك. 

غـادرنـا المقـهى، ولكن شيئـا من رائحـته، وموسيقـاه، وحكايتـه التي لـم تكتمـل، ظـلت تلازمـنـا كظـلال خـفـية.

إلى صفـحـة قـادمـة ...