بعد أداء صلاة عيد الفطر المبارك بالمسجد تَوَجَهَ الأبناء محمود ومصطفي عبدالله ،أحمد ويوسف وأختهم الصغري إيمان إلى المنزل و كان والدهم قد سبقهم الى هناك ،. دخلوا حيث يجلس والدهم جل الأوقات في غرفة التلفاز وحوله الأحفاد ،تَقَدَمَهُمْ أخوهم الأكبر عبد الله وسَلَّمَ على والده وقَبَّلَ يَدَه وتَتَابَعَ الكل وفعلوا مثله ،جلسوا ليتجاذبوا أطراف الحديث والسعادة تعلو وجوههم ،كيف لا والعيد هذا العام عيدين ،عيد الفطر وعيد تواجدهم جميعا مع بعض دون غياب أحد ، حضرت أختهم طعام الإفطار و ساعدها في ذلك نساء المنزل الأخريَات ،كانت المائدة مكتملة العدد ولا يوجد مكان فارغ ،نظر الأخ الأوسط محمود إلى الجميع والسعادة تنبعث من عينيه فهو أكثر من يعرف قيمة هذا الجمع وأسعدهم لأنه حُرِمَ منه سنوات كثيرة ،و قَلَّمَا جادت الدنيا له بمثل ذلك محمود كثير الأسفار ساعيًا على رزقه لتحقيق حياة أفضل لأسرته ولذلك مرت عليه أعياد تلو الأخرى وحيدا ،
بعد الإنتهاء من تناول الأفطار تعاون الجميع في جمع الطعام المتبقي وتنظيف المائدة كعادتهم ،بادر الحفيد الأكبر محمد وقال أين عيديتي أنا وأبناء أعمامي سارع أعمامه ووالده بتوزيع العيديات عليهم ،
لفت نظر محمود شرود والده الحاج إبراهيم الذي خرجت كلماته ضاحكة يخالطها بكاء ويسكن في باطنها مرارة أيام طفولته رغم أنه تجاوز الستين من عمره وقال :
**هنيئا لكم يا أحفادي ويا سعدكم بأعمامكم ،يحبُونكم ويتوددون إليكم ويعطونكم عيديات ،أما نحن فكان الواحد منهم يعطيك ضربة بعصاة أو لطمة على وجهك تجعلك تفقد تركيزك لأيام ،رَدَّ محمود على والده
**أما زلت تذكر تلك الأيام وأنت الآن جد وجاوزت الستين ...؟!
فرد عليه قائلا :
**وهل ينسى الجفاء وجحود الأقربين وخاصة إذا كنت يتيم ؟؟
فطن محمود إلى ما يجول بقلب أبيه فتلطف وترفق به وقال :
**الحمد لله لقد عَوَّضك الله وأجزل لك العطاء ورزقك بعد الصبر جبرا وبارك في ذريتك ، فحمد الله هو الآخر وقص على أولاده وأحفاده قصة قديمة وهو في عمر الخامسة كان يعمل بالأجرة حتى يعين أمه المسكينة على نفقات الحياة وتكاليف معيشته هو وأخوته
وبينما هو في عمله وقع وكُسِرَتْ ذراعه فلما علم ذلك أحد أعمامه أخذه إلى الطبيب شفقة عليه ورحمة به على عكس عادتهم ودفع تكلفة العلاج وأجرة الطبيب خمسون قرشا وكان وقتها لا يدري أيفرح لأن عمه أذاقه أخيرا لذة الحنان وطعم الأبوة الذي حرم منه أم يحزن لأن ذراعه كسرت ؟
رجعوا ولم تكتمل سعادة المسكين فما هي إلا دقائق معدودات وقامت زوجة عمه بالتشاجر معه واشترطت أن يأخذ قيمة العلاج من زوجة أخيه الأرملة التي تُرَبِي أولاد أخيه الأيتام في نفس المنزل ويا ليتها اكتفت بذاك بل تابعت قولها
**إبراهيم إن كبر سينفع أمه وإخوته لن ينفعنا نحن ....
يا الله على قلوب البشر حينما تتحجر
بل إن من الحجارة لما يتشقق ويخرج منها الماء ومنها ما يهبط من خشية الله ، الرحمة حين تُنْزَعُ من قلب أحدهم يصل لدرجة لا يتصورها عقل ، انتهت قصة الحاج إبراهيم منذ زمن بعيد ، لكنها تركت في قلبه جراحا غائرة لم تداويها السنين رغم تتابعها وصدقوا حينما قالوا ما في عقل الصغار لا ينسى.
مازح محمود والده ومازح إخوانه حتى تعود للعيد بهجته مرة أخرى بعد هذه القصة المؤثرة التي بكى لها قلب والدهم دون عينه ، فطن الأبناء ومن يعي من الأحفاد الدرس الذي أراد أن يعلمهم إياه وهو أنه كما أن الود والحنان لا ينسى فالجحود والقسوة لا تنسى وتترك جراحا في القلب لا تداويها السنين .
سعيد صلاح محمد