dimanche 1 juin 2025

عبدالفتاح الطياري

ديهيا الأمازيغية
1. ملكة الجبال ولهيب المقاومة
في أعالي جبال الأوراس، حيث تهب الرياح محملة بعبق الزعتر البري وصوت الطبول القديمة، كانت هناك امرأة تثير الرهبة في قلوب الرجال، وتحرك الأمل في نفوس النساء. اسمها ديهيا، أمازيغية الأصل، نبتت من أرض الشوك والكرامة، وشبت بين أعراف الأحرار.
ولدت ديهيا في القرن السابع الميلادي، في منطقة الهوقار أو الأوراس، حيث كانت قبيلتها تحكم بالعرف والشجاعة. كانت ذكية، جريئة، ولها من الحنكة ما يجعلها تُحسب في مقام القادة لا النساء فقط. ومع تقدم عمرها، ازدادت حكمتها واشتد ساعدها، حتى أصبحت قائدة قومها بعد وفاة والدها، وتوحدت تحت رايتها العديد من القبائل الأمازيغية.
حين دخل المسلمون شمال إفريقيا بقيادة حسان بن النعمان، كانت ديهيا هي العقبة الكبرى في طريقهم. لم تكن معارضة للإسلام كدين، بل كانت تخشى فقدان هوية شعبها، وتفكك أراضيهم أمام الغزاة الجدد. رأت أن المقاومة واجب مقدس.
في إحدى المعارك المفصلية، معركة الأوراس، قادت ديهيا جيشها المكون من رجال ونساء، شيوخ وشبان. قاتلوا بشراسة، وحققوا نصرًا مؤقتًا، حتى أن حسان بن النعمان تراجع إلى طرابلس، وقال عن ديهيا: ما رأيت امرأة تقود جيوشًا وتخيف الرجال مثلها.
لكن النصر لم يدم طويلًا. بعد سنوات من الكر والفر، استخدم حسان سلاح التحالف والخديعة، واستمال بعض القبائل، وأعاد الهجوم. ديهيا، العارفة بدهاليز الحرب، قررت اتباع سياسة الأرض المحروقة، فأمرت بإحراق المدن والقرى التي قد يستفيد منها العدو، وهو القرار الذي كلفها التفاف بعض القبائل ضدها.
في النهاية، انهزمت في معركة حاسمة قرب تبسة، وقُتلت بشجاعة سنة 703م. ودفنت في مكان مجهول، لكن أسطورتها بقيت خالدة، تتناقلها الأجيال، وتُروى في الحكايات، كرمزٍ للمقاومة والكرامة الأمازيغية.
2. رسالة ديهيا الخالدة
إلى شعبي، إلى أبناء الجبال والسهول، إلى من يتحدثون لغة الريح والصخر…
أكتب إليكم وأنا أعلم أن النهاية اقتربت، وأن جسدي سيسقط بين الصخور التي طالما حمَلت خطواتي، لكن الروح لا تموت، والحق لا يندثر، ما دام هناك من يؤمن به ويضحي لأجله.
لم أحمل السيف لأبني لنفسي مُلكًا، ولا اعتليت العرش حبًّا في السلطة. قاتلت لأني رأيت الأرض تُسلب، والهوية تُطمس، والشعوب تُجبر على أن تنسى من تكون.
علمتكم أن لا تركعوا، حتى لو زلزلت الأرض تحت أقدامكم. علمتكم أن الكرامة أثمن من الحياة، وأن المرأة تستطيع أن تقود كما يقود الرجل، وأن الصمت في وجه الظلم خيانة.
لم أكره من جاؤوا بدينهم، ولكنني خشيت أن يُفرض علينا كما يُفرض السيف، وأن تُمحى تقاليدنا، ونُجبر على العيش غرباء في أرضنا.
يا أبنائي، إن ضعفت ذراعي فسلاحكم هو عزيمتكم، وإن خمد صوتي، فليصدح صوتكم بالحقيقة. لا تخافوا من الهزيمة، فالهزيمة الحقيقية هي أن تنسوا من أنتم.
لا تحقدوا، ولكن لا تنسوا. سامحوا، ولكن لا تستسلموا. من يزرع الجذور في الأرض لا تقتلعها العواصف.
إن سقطتُ، فلا تبكوا موتي، بل اجعلوه بدايةً لنهضة جديدة. اكتبوا اسمي لا في كتب التاريخ فقط، بل في قلوبكم، كرمزٍ للحرية، للمرأة التي لم تخف، وللوطن الذي لا يُباع.
ديهيا بنت الأرض… بنت الأوراس… الكاهنة الحرة.
ديهيا لم تكن فقط محاربة، بل كانت رمزًا للاستقلال، للحفاظ على الهوية، ولحماية الأرض. اختلف معها البعض، واتفق معها آخرون، لكن لا أحد ينكر أن اسمها نقش على صخور التاريخ، بجانب أسماء العظماء.
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس