ليست الكتابة مجرد حروفٍ تُساق على الورق، ولا هي زخرف لغوي يبتغي صاحبه التسلية العابرة، إنما هي – في جوهرها – فعل وجودي، صراع مع العدم، وطلبٌ للخلود عبر الكلمة. ومن هنا يبرز الفارق الجوهري بين من يكتب ليبدع، فيؤسّس عالماً جديداً، وبين من يكتب ليكرر ما تكرّر، فيعيد إنتاج المألوف كظلٍّ باهتٍ لشيء مضى.
الإبداع، في حقيقته، ليس زخرفة ولا براعة أسلوبية فحسب، بل هو انبثاقٌ من الداخل، تمرّد على اللغة المألوفة، وتحوّل النص إلى حدث يخلخل السائد ويوقظ الغافل. الكاتب المبدع لا يكتب لأن الزمن يملي عليه، بل يكتب ليضيف زمناً آخر؛ لا يكتب ليستنسخ تاريخاً، بل ليؤسس تاريخاً موازياً. إن الإبداع هنا فعل حرية: الحرية في مواجهة الجمود، الحرية في فتح دروبٍ لم تطأها أقلام من سبقونا.
وعلى الضفة الأخرى يقف من يكتب ليكرر، فيستعيد أنماطاً مستهلكة، ويعيد صياغة أفكارٍ استُهلكت عبر العصور. هذا الكاتب يكتب للنسيان، لأن نصه يولد محكوماً بالزوال؛ يكتب ليملأ فراغاً وقتياً، لكن فراغه أكبر من أن يُملأ بالحبر. هو أشبه بمن ينفخ في الرماد، فلا يوقظ ناراً ولا يترك دفئاً.
شتان إذن بين من يكتب ليُمتع ويبدع، فيصنع من نصه مرآةً للروح وجرساً للذاكرة، وبين من يكتب للتسلية العابرة، فيُلقى نصه في غياهب النسيان. الأول يحوّل المعاناة والفرح والأسئلة الوجودية إلى مادة حيّة تقاوم الموت، أما الثاني فيحوّل الورق إلى مرآة سطحية لا تعكس إلا ما رآه الآخرون قبله.
هنا تكمن المفارقة الفلسفية: الكتابة إمّا أن تكون خلقاً أو تكون خواء، إمّا أن تكون عبوراً إلى أفق جديد أو دوراناً في حلقة مفرغة. فالكاتب الحقيقي لا يكتب لأنه يملك لغةً فحسب، بل لأنه يملك رؤيةً تجعل اللغة تُنطق ما لم يُنطق به بعد.
وإذا كانت الحياة ذاتها سؤالاً مفتوحاً، فإن الكتابة هي محاولة شجاعة للإجابة عنه بطرق لا نهائية. والكاتب المبدع، في نهاية المطاف، هو ذاك الذي يجعل القارئ يخرج من النص مختلفاً عمّا كان قبل دخوله إليه. أما الكاتب المكرر، فيترك قارئه كما هو، وربما أكثر خواءً، كمن شاهد مشهداً مراراً حتى فقد أثره.
بقلم ابراهيم عثمان