قراءة لاكانية سريرية في موقع الفقد والإثارة
بقلم/د. حنان حسن مصطفي
يشغل مفهوم الموضوع الصغير a موقعًا محوريًا في البناء النظري للاكان، باعتباره لا “موضوع الرغبة” وإنما “سبب الرغبة” (cause du désir). هذا المفهوم الذي تطوّر عبر سمنيرات لاكان من نهاية الخمسينيات إلى بداية السبعينيات، يمثل نقطة مفصلية لفهم العلاقة بين الذات والمتعة، بين الرغبة والبنية، بين الدال والجسد.
في هذا المقال، نتناول الموضوع الصغير a بوصفه أثرًا للفقد يتجسد في المتعة (jouissance)، ونبيّن كيف يُشكّل عنصراً سريريًا دقيقًا في تحليل الأعراض والرغبات المتكررة، من خلال مثال كلينيكي موسّع، واستنادًا إلى نصوص لاكان الأصلية.
I. التحديد النظري: ما هو الموضوع الصغير a؟
يرى لاكان أن الذات، بمجرد دخولها إلى النظام الرمزي (أي اللغة)، تخسر شيئًا جوهريًا لا يمكن استعادته. هذا الشيء لا يتمثل في موضوع مادي، بل في مكان الفقد ذاته. ومن هنا، يُعرّف الموضوع الصغير a بأنه:
“ما يُستخرج من فقد موضوع، وهو ليس سوى تموضع المتعة في نظام الرغبة.”
(Séminaire X, L’Angoisse, 1962-1963)
ويضيف في سمنير XVII:
“الموضوع الصغير a هو ذلك الذي يأتي في موضع الانفصال (séparation)، هو ما يُصطنع من العلاقة بين الذات والمكان الذي لم تكن فيه.”
(Séminaire XVII, L’envers de la psychanalyse, 1969-1970)
هذا التموضع لا يشير إلى شيء موجود، بل إلى أثر، إلى شبح فقد أصلي. الموضوع الصغير a ليس سوى نقطة الالتباس بين الرغبة والمتعة، حيث لا تُلبّى الرغبة إلا من خلال ما لا يمكن تحقيقه.
II. الموضوع a والمتعة: اشتباك الحضور والغياب
في الفكر اللاكاني، “المتعة” (jouissance) لا تعني اللذة بل تتعدّاها إلى ما هو ما-بعد اللذة (au-delà du principe de plaisir). المتعة ترتبط بما لا يمكن احتماله، بما يتجاوز التنظيم الرمزي للّذة. والموضوع الصغير a هو ما يفتح هذه المتعة المتجاوزة.
هذا التوتر بين الرغبة والمتعة، يجعل من a:
• نقطة عبور بين الدال والجسد.
• أثرًا يجذب الذات إلى تكرار المعاناة.
• مركزًا لتكوين الأعراض.
هنا يظهر الموضوع الصغير a كـ”سبب للدافع” (cause de la pulsion)، لأن الدافع، كما يقول لاكان، لا يتحرك نحو موضوع، بل يدور حول فقد لا يمكن التماسّه.
III. اشتغال الموضوع a في العيادة: من التمثل إلى التكرار
الحالة: “رُبى” وتثبيت الصوت
رُبى، امرأة في أواخر الثلاثينيات، جاءت إلى التحليل بسبب نوبات فزع ليلية، مترافقة مع وساوس متعلقة بموت الأم. رغم وفاة والدتها منذ أكثر من 15 عامًا، فإنها لا تزال تحتفظ بتسجيل صوتي لوالدتها، كانت ترسله لها في الطفولة عبر جهاز صغير.
المثير في التحليل أن رُبى لم تكن تستمع للتسجيل بانتظام، بل فقط حين تشعر بفقدان السيطرة أو الخوف من الوحدة. كانت تقول:
“أعرف أني مش بسمع الصوت علشان أفتكر ماما… أنا بسمعه علشان أحس إن في حاجة بتشدني لجوايا… الصوت مش بيطمني، بس بيحطني في مكان أعرفه كويس… كأنه وجعي.”
التحليل اللاكاني:
• التسجيل لا يحمل فقط صوت الأم، بل يتمثل فيه أثر الغياب الأولي الذي تكوّن حوله الدافع.
• رُبى لا تسعى إلى تذكّر الأم، بل إلى استعادة أثر المتعة المتجسدة في الصوت المفقود – الموضوع الصغير a.
• الاستماع للصوت يعيد إنتاج المتعة، لا بوصفها لذة، بل ألمًا من نوع مألوف – تكرار يخترق مبدأ الواقع.
• إنها لا تحاول “امتلاك” الأم، بل البقاء في مدار الفقد، حيث تستمد هويتها كـ”من فُقدت أمها”، لا كابنة
ناجية.
IV. أثر لاكاني: الموضوع a كقاطعة في المعنى
يرى لاكان أن a هو “ما لا يُمكن إدراجه في السلسلة الدالية”، بل يعمل كـ نقطة توقف، كفراغ في المعنى. لذا، في سمنير XI، يقول:
“إن الموضوع الصغير a لا يُمثّل، لكنه يُفترض، يُشتق، يُؤثر دون أن يُظهر ذاته.”
(Le Séminaire XI, Les quatre concepts fondamentaux de la psychanalyse, 1964)
وهذا يعني أن الذات تظل تسعى لتطويقه، تسميته، إدخاله في النظام، دون أن تنجح فعليًا. ومن هنا تنبثق الاستثارة المتكررة (stimulation répétitive) التي نراها في العيادة، كدوار حول اللاشيء.
الخاتمة: الموضوع a كنواة للذات المتحللة
يمثل الموضوع الصغير a لا مركز الرغبة، بل شتاتها، انقسامها، واستحالة امتلائها.
إنه لا يهب المعنى، بل يوقظ الحاجة الدائمة إلى المعنى.
وحين نتابعه كلينيكيًا، لا نبحث عن شيء فقدناه، بل عن نقطة لم نكن فيها أصلًا، لكننا نعود إليها مرارًا كمنفى داخلي.
يبقى الموضوع الصغير a هو المتعة التي تحوم عند حافة الفقد، والتي تجعل من التحليل ليس طريقًا للتصالح، بل مسارًا للاقتراب – لا من الحقيقة – بل من نقطة الانقطاع التي أسّست الحقيقة ذاتها.
⸻
المراجع
• Lacan, J. (1962-1963). Le Séminaire X: L’Angoisse. Paris: Seuil.
• Lacan, J. (1964). Le Séminaire XI: Les quatre concepts fondamentaux de la psychanalyse. Paris: Seuil.
• Lacan, J. (1969-1970). Le Séminaire XVII: L’Envers de la psychanalyse. Paris: Seuil.
• Fink, B. (1995). The Lacanian Subject: Between Language and Jouissance. Princeton University Press.
@إشارة