بقايا مدينة..!
في شوارع هذه المدينة الكالحة، أمضي في هذا المشهد الرمادي يوميا، لا أعلم إن كنت أسير هربًا أم بحثًا عن شيء لا أعرفه.
أتنقل بلا هدف واضح، أجرّ خيبتي بين الأزقة الضيقة، أراقب الأرصفة المهترئة التي تشهد على أقدامٍ مرت عليها بثقل الأيام، وأطلال المباني التي لم تعد تحمي ساكنيها بقدر ما تحاصرهم. أرهف السمع لكل همسة، لكل تنهيدة، لكل صوت يرتفع ثم يخفت كأنه يخشى أن يُسمع. في هذه المدينة، حتى الضجيج يبدو متعبًا، يعلو بلا روح، كأن الجميع يؤدي دوره في مسرحية لا يريد غيرها، لا لأنه مقتنع، بل لأنه لم يعد يعرف شيئًا سواها.
عند ناصية الطريق، يقف بائع الألعاب بجوار عربته المتآكلة، ينادي بصوت مبحوح، متصنع الحماس: "اسعد ولدك بهذه اللعبة!" عيناه لا تعكسان شيئًا سوى التعب، حدقت في عربته، في الألعاب التي بدت وكأنها فقدت ألوانها تحت شمس المدينة القاسية. كم تمنيت لو استطعت أن أشتريها كلها، لا للأطفال، بل له، ليجلس، ليصمت قليلًا، ليشعر للحظة أنه ليس مضطرًا للركض خلف لقمة لا تكفي حتى لخداع الجوع.
على الرصيف المقابل، طفل صغير بجوار ميزانه البالي، ربما في العاشرة من عمره، يردد بصوت خجول: "اعرف وزنك بـ ٥٠ ريالا فقط." كأنه يخاطب فراغًا يدرك أنه لن يجيبه. نظرت إليه طويلًا، رأيت في عينيه شيئًا أكبر من عمره، شيئًا يشبه اليأس الذي لم يجد بعد اسمًا له. كدت أنحني وأهمس له: "يا صغيري، في هذه المدينة لا أحد يريد أن يعرف وزنه... الجميع هنا مثقلون بما يكفي، لا طاقة لأحد حتى ليتذكر اسمه."
بجانبه، يجلس رجل مسن، ثيابه مهترئة، ينفض رماد سيجارته على الأرض وكأنها آخر ما تبقى له من أشياء يمتلكها. عيناه غارقتان في الفراغ، كأنهما تتأملان حياة لم تعد تخصه. لا يطلب شيئًا، لا يمد يده، فقط يجلس هناك، يراقب العابرين بنظرة باردة، كأن المدينة قد سرقت منه كل شيء حتى الرغبة في الشكوى.
في الزاوية الأخرى، تحت عمود إنارة بالكاد يعمل، تجلس امرأة تلفّ طفلها بقطعة قماش رقيقة، تحاول أن تحميه من برد الليل، أو ربما من قسوة العالم. تهمس له بأغنية لا يسمعها أحد سواه، كأنها تحاول أن تقنعه أن العالم ليس بهذا السوء، رغم أن عينيها تخبرانه العكس.
، الجميع يمضي،في هذا المشهد الرمادي لا يعلم أن كان يسير هربأ ام باحثا عن شيء لا يعرفه هنا في هذة المدينة الجميع يمضي لكن لا أحد يصل.