مذكرات سجين :
الحلقة الثانية والعشرين
✍️ بقلم / عبدالله الحداد
أيها الأعزاء :
💁♂️ كما أخبرتكم سابقا أني كنت إمام وخطيب مسجد السجن بينما كان هناك سجين سابق في الستينات من عمره واسمه محمد المظلوم وهو قد تطوع ليكون المؤذن طوال بقائه في سجن البحث والتي استمرت لمده سنة كاملة ....
الحاج محمد بهي الطلعة ... حسن السمت ... دمث الأخلاق .... يبدو عليه أثر النعمة التي كان يعيشها سابقا .
ما هي قصته ؟ ... ولماذا أضحى شريدا طريدا مع أسرته ؟
🔸الرجل الثري بالأمس أصبح فقيرا اليوم .... ليس فقيرا فحسب .. بل معدما للغاية .
◀️ بداية معرفتي به .
💁♂️ كنا ذات مرة في المقيل بجوار الشيخ عبده الملاطفي فمر من أمامنا الحاج محمد , فناداه الشيخ عبده وأعطاه القات .... أخذه ومضى وبيده مسبحته التي لا تفارقه .
🔸 بعد مغادرته حدثنا الشيخ عبده فقال : هذا الرجل مخلافي من العدين وكان صاحب مزارع دجاج وأملاك وأموال كثيرة بالريال اليمني. والسعودي والدولار ... أما الذهب فكان يخزن الجنيهات في علب النيدو !
🔸وللأمانة فقد أخبرني الحاج محمد بهذا الكلام من قبل فلم أصدقه !! قلت في نفسي : لعله يبالغ في الأمر - كعادة السجناء الذين نهبت بيوتهم من قبل غرمائهم -
قلت للشيخ : هل تعرفه فعلا ؟ أم أنه أخبرك بذلك ؟
أجاب الشيخ - وهو يستنكر سؤالي - أعرفه حق المعرفة , وعاشرته وتعاملت معه سنين طويلة .
فقلت له : ما هي قصته ؟ ... ولماذا هو مسجون ؟
فقال : قصة مؤلمة ... سأخبرك بها .
قلت له : طالما والحاج موجود فلماذا لا يحدثنا حكايته بنفسه ؟
فقال حبا وكرامه .... سندعوه ليحدثنا . نادى على الحاج محمد فجاء إلينا .
الحاج محمد : أمرك يا شيخ !
قال له الشيخ : إجلس يا رجل ... وقص وقص علينا حكايتك !
قال الحاج محمد : حبا وكرامة ... و لو أنها تسبب لي غصة في الحلق وكآبة في الصدر !!
💁♂️ بدأ الحاج يحكي لنا قصة شموخ .... ثم انكسار ...
قال : كنت أعيش في بداية شبابي في شظف العيش فسافرت إلى السعودية , وهناك اشتغلت وكافحت حتى جمعت من المال ما يكفي لأفتح لي مشروعي الخاص في بلدي - سئمنا الغربة - . وعندما عدت إلى بلدي أنشأت مزرعة دواجن صغيرة ... و اشتريت سيارة للتوزيع .... كافحت واجتهدت وبذلت أقصى جهدي ليلا ونهارا لكي ينجح ويكبر مشروعي !!
و فعلا بدأ الحال ينتعش لدي فعملت على تطوير المزرعة فضاعفت من الإنتاج وضاعفت من التوزيع وأصبح لي عمالا وموظفين . كبر الأولاد وبدأوا يساعدونني في العمل .
زوجت أحد أولادي من أسرة المشائخ , وكنت صديقا للجميع حتى حدثت الطامة الكبرى وحصل خلاف بيني وبين أحد الشيوخ على قطعة أرض ... ثم تطور الخلاف إلى اشتباك بالأيدي فتكاثر علي الأعداء و غلبت ! .... فما كان من أحد أبنائي إلا أن أطلق النار وأصاب أحدهم . لم تكن الإصابة بليغة أو في مكان من الجسم قاتل .... كانت الإصابة في الساق وبعيدا عن العظم , ولكنها إرادة الله فقد توفي الرجل قبل أن يصل إلى المستشفى !!. عندها فررت من بين أيديهم , ودخلت بيتي ... جهزت أسلحتي واتخذت من بيتي مترسا .....
وما هي إلا فترة وجيزة حتى تداعى علي الأعداء من كل حدب وصوب , وأحاطو بمنزلي ثم بدأوا يطلقون النار علي وأنا أرد عليهم وأناوشهم .... كنت أمتلك الكثير من الذخيرة لكن ما عساه يفعل الفرد مع تلك الحشود ؟ فقد اجتمعت علي قبيلة بكاملها بأعداد مهولة ومدربة على الحروب التي هي ديدنهم في كل وقت ... أما أنا فرجل مسالم ومصادق للجميع ولست من هواة المشاكل !
🔸أرسل الحاج محمد تنهيدته المليئة بالأسى والحسرة وهو يحدثنا ثم قال : لقد كان يوم عصيبا ... ضاقت علي الأرض وأصبحت محاصرا في زاوية من زوايا البيت .... بلغت القلوب الحناجر و زلزلنا زلزالا شديدا . و مع الشعور بالقهر تولد عندي الشعور بمقاومة طغيان المعتدين الذين كانوا يزدادون باستمرار .
☄️ بدأ الليل يرسل خيوطه السوداء ويسدل بدثاره المدلهم ليخيم على المكان , وهنا وجدتها فرصة لتهريب ابني الذي أطلق النار .بدأت إطلاق النار بكثافة من أماكن مختلفة في البيت وفعلا استطاع ابني الإفلات منهم وفر بعيدا باتجاه مناطق إب حتى وصل إلى بلاد الشيخ هباش, وهناك أعطاه الشيخ الحماية والأمان .
لم يشعروا بهروب إبني ( قابص ) والا كانوا سيلحقون به , ولديهم من الرجال ما يغطون به الجبل والوادي , ولكن الله سلم. ....
👈 استمرت المناوشات طوال تلك الليلة المشؤومة , ولا صوت يعلو سوى صوت البنادق والقذائف المتفجرة ... وحتى أنابيب الغاز أستخدموها في التفجير .... و أنا أقاومهم باستماته !
🤷♂️ تخيلوا أنني كنت أناوشهم بمفردي بينما ابني الاكبر ( ساجر ) والذي هو سبب المشكلة من البداية وقف مع عمه وأصهاره ضدي ولم يقف مع أبيه !!
💁♂️ في اليوم الثاني بدأت الذخيرة في النفاذ , واشتد الحصار وإطلاق القذائف على البيت لكن المنزل كان قويا بما فيه الكفاية لحمايتي لفترة ريثما يتدخل الوسطاء ويوقفوا المعركة ! .... لكن لا أحد استنكر تلك الجريمة, ولم يتدخل أحدا من العقلاء و وجاهات المنطقة لإيقاف الهجوم !! .... في ذلك الظرف العصيب تخلى عني الصغير والكبير. بعد أن كان الكثير يخطبون ودي و يطمعون في كرمي !! أغرورقت عيناه واختنق كلامه فتوقف قليلا ثم أردف قائلا :
قبيل مغرب اليوم الثاني توقفت عن إطلاق النار ... ليس استسلاما ولكن لأن الشيخ ملهم تدخل للوساطة .... وعرض علي الخروج الآمن لي وأسرتي من المنزل , وبشرط أن نخرج بملابسنا التي علينا .... أي نترك ديارنا وأموالنا و مجوهراتنا ونخرج صفر اليدين !.
🔸وهنا تساقطت دموعه وهو يحدثنا .... يا له من موقف مهين ! , حين تفارق دارك .... وحين تسلم رقبتك لأعدائك !! ....
👈ترددت كثيرا في قبول العرض .... وفضلت أن أقاوم حتى أسقط شهيدا في بيتي إذ لا مجال للانتصار وأنت ترى الحشود المغيرة وهي تتكاثر ....., وفي الجانب الآخر يقهرك تخاذل أهلك ومحبيك , ومن كنا نحسن إليهم .... فما الحيلة ؟
😡 أطلقت زفرة قوية تنم عن القهر .... آح آح. ... لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد !!
لحظات ثقيلة تمر علي .... لا أدري بماذا أجيب !! فأنا بين خيارين كلاهما مر وعلقم !! ... إما القتل وأنا أقاوم أو أسلم رقبتي لأذبح ذبح الخراف !! .
🔸استمرينا كثيرا في التفاوض حتى أعطوني عهد الله وميثاقه ألا أصاب بأذى .... و وعد الشيخ ملهم أنه سيسلمني إلى السلطات الأمنية ليقول القضاء بعدها كلمته .
🤷♂️ التفت خلفي لأجد نسوة يتملكهن الخوف وأطفال مرعوبون .... وبطون خاوية أشغلهم الخوف عن إشباعها !!
👈عندها ..... قررت الخروج بوجه الشيخ ملهم ....
💁♂️ توقف الحاج محمد عن الكلام ... نظرنا إلى وجهه فوجدناه مملوء بالدموع .... مشهد مأساوي ومؤثر لا تملك أن تحبس دموعك ... خاصة وأنت في بيئة السجن تعيش أحداث الظلم والجبروت متنوعة السيناريوهات وبحبكات درامية يعجز عنها دهاقنة الرواة والكتاب المعتقين .
🔸نعم خرج الرجل ليسلم نفسه بعد أن أخذ الضمانات القوية ووجوه وجهاء القوم .... لكن ماذا حدث بذلك ؟ .... وهل تم الإيفاء بالعهود ؟
🤷♂️ أحداث مثيرة ...😱😰😩 ومأساوية بانتظار معرفتها غدا بإذن الله ....