علي البدر والتحليل النقدي لقصة "أللوحة" للقاص عبد الأمير المجر
القصة تتمحورُ حول طلبٍ من صديقٍ غادرَ العراق بسبب الحصار، يطلب إرسالَ أحدى لوحاتهِ التشكيلية المخزونة في مخزن يطلق عليه (الفنار الفني)، الذي بنته الدولة قبل عقود، حيث تجمع فيه نماذج الأعمال الفنية من لوحاتٍ ونصبٍ وتماثيل....". وتداهمُ السارد الشكوك بإمكانية العثور على هذه اللوحة، خاصة وإن المكان قد تعرض" بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003 إلى تخريبٍ وحرقٍ ونُهِبَتْ منه الكثيرُ من الأعمال". وكان لابد له من استئجار سيارة أجرة حيث قاده السائق الى منطقةٍ تنتشرُ فيها البيوتُ العشوائية والخردة والفوضى، مجاورة لمكانٍ يُعتبر مَكبًا للنفايات. لقد وجد القاصُّ عبد الأمير المجر نفسه في موقفٍ لا يحسد عليه. أيعقل أن يبحثَ عن العمقِ الثقافي بين أكوامِ النفايات .. ، وسكرابٍ لموادٍ مختلفةٍ، ونساءٍ وأطفالٍ يبحثون بين الأنقاض عن أشياء يمكن أن يبيعوها أو يستفيدوا منها، وعلى مقربة من هذا (الفنار)؟"
لوحةٌ اسمُها (عراق المستقبل)، رسَمَها مطلع الثمانينيات، قبل أن تبدأَ سلسلةُ الحروب، وعُرِضَتْ في المركز الوطني للفنون ومن ثَمَّ حُفِظَتْ في (الفنار الفني)... أيمكن أن نبحث عن لوحة بهكذا إسمٍ تفاؤلي وسط الأزبالِ وقريبًا من بيوتٍ، بُنِيَتْ فوضويًا، يُسَميها العراقيون بيوتُ الحَواسِم؟
تساؤل يبدو مؤلمًا لأول وهلةٍ، تقصَّدّ القاصُّ وضعنا وسط مفاصله، ليفاجئُنا لاحقًا وكأنه يَرُدُّ عليها وبكل هدوءٍ وثقةٍ وانسيابية من خلال ذلك الصبي "الذي يبدو أنه حصلَ على شيء يبحث عنه، فدفعني الفضول لأن أقترب منه.. لم أتبين الشيء الذي حصل عليه، لكنه بدا مسرورًا، وحين وقفت قبالتهُ قلت له؛ هل تعمل هنا؟.. رد عليّ بعفوية؛ لا... أنا أحبُّ الرسمَ والمعلمُ شجعني عليه ولدَيَّ رسومٌ كثيرةٌ في البيت، لكني كثيرًا ما أجدُ لوحاتٍ فنيةٍ هنا، فأشتريها لأتدربَ عليها..". أجل أمل يتدفق من عُمقِ اليأسِ، من اصرار هذا الصبي ومِن معلمه، ذلك الرمزُ الذي يساهم في ترميمِ وإعادةِ بناء ما خسرهُ الشعبُ مُرغمًا.
".. قبل مدة، وجدتُ الكثيرَ من اللوحاتِ المحروقةِ تقريبًا، وتماثيلاً مثلّمةً، قمتُ بترميمها والتدريبِ عليها بإعادتها إلى شكلها الطبيعي.. طبعا لا يمكن أن تكون كالسابق لكني أحاول... قال ذلك وهَزَّ رأسَهُ مبتسمًا، وكان يبدو واثقًا من نفسه.. ، خاصة عندما أصَرًّ على إعادة تلك اللوحة الجميلة كما كانت، والتي حصل عليها مشوَّهَةً في أغلب ملامِحها. "غادرتُ وانا على شبه يقين من أنها لوحةُ صديقي ... لأن ما تبقى منها يشبهها تماما!"
مما تقدم، يبدو واضحًا مدى إصرارِ الكاتبِ على ترسيخ التفاؤل optimism بعد إشاعة الأفكار التشاؤمية بين عموم الشعب pessimistic social feeling بعد الإحتلال الأميركي الإستعماري للعراق. وللأسف شاع هذا التشاؤم بين عموم الشعب والأخطر منه أخذ حيزًا ملحوظًا بين بعض المثقفين. وقد جاء السَّردُ القصصيُّ استرساليًا مُجانبًا للسردِ الروائي. وكان أسلوبُ ضميرِ المتكلمِ سائدًا تقريبًا "... وأردفتُ هل أنت متأكدٌ من المكان.... لقد انشغلتُ بقراءة كتاب معي....دفعني الفضول ...". ونجد أيضا حواراتٍ ثنائيَّةً مقتضبةً concentrated dialogue منها "- لم يبق لي إلا القليل. أنت قلت لي...."، وأيضا أسلوب الشخص الثالث third person مثل " الفنان التشكيلي الذي هاجر إلى إحدى الدول الأوربية، أيام الحصار الاقتصادي على العراق في التسعينيات واستقر هناك..."
ولم يكن القاص عبد الأمير المجر وحده الذي يطغي الأسلوبُ الروائيُّ في كتاباته للقصة التي يفترض أن تكون قصيرة. وإن لم تَخُنّي الذاكرةُ، تحليلي النقديُّ لقصة:"عصا الجنون" للروائي الرائع أحمد خلف و"لمن أشكو كآبتي" لأنطوان تشيخوف و"المستشفى العسكري" للروائي خالد الوادي و"أنينُ البراهين" للدكتور سلمان كيوش و"طيور المجذوب" للقاص حدريوي مصطفى العبدي و"ميرلا والبحر الأحمر" للروائي حسن البحار وغيرهم. وإن ما أشيرُ اليه بالتأكيد بعيدٌ عن الأسلوب الحكائي الذي يسترسل بدون إفساح المجالِ للمتلقي للتفكير لربط فواصلِ السَّرد، فيكون المتلقي سلبيًا. ونجد هنا في قصتنا موضوع التحليل أسلوبًا روائيًا novel narration لافتًا، قد يضع المتلقي والناقد أحيانًا، في مطبّاتٍ، يَبذلُ فيها جهدًا للخروج منها وإيجادِ تبريرٍ منطقيّ logic justification لمجمَلِ النتائج العلمية التي يعتمدُ التحليلُ النقديُّ عليها.
وعندما يبدأ السرد بومضة مضيئة flash point " حين انعطفت بنا السيارةُ باتجاهِ حَيِّ شعبيّ، بدت بيوتُهُ مبنيةً بشكلٍ شُبهِ عشوائي، قلتُ للسائق؛ لا أعتقد أن (الفنار) يقع هنا.. وأردفتُ؛ هل أنت متأكدٌ من المكان؟". نلاحظ وبوضوح التمرير الذكي للقاص عبد الأمير المجر لجعلنا نتساءل: ما الغرض من الذهاب للحي الشعبي؟ وما المقصود بالفنار الذي هو الضوء الذي يستعمل لإرشادِ السفنِ للوصول الى الساحل أو بما يوضع أحيانًا وسط النهر لأغراض معروفة؟
ونعرف لاحقًا سببَ الذهابِ وهو " لتحقيق رغبةِ صديقي، الذي أعطاني كاملَ مواصفاتِ لوحته واسمها (عراق المستقبل)، رسمها مطلع الثمانينيات، قبل أن تبدأ سلسلة الحروب، وعرضت في المركز الوطني للفنون ومن ثم حفظت في (الفنار الفني)...وهنا تعطي القصة بعدًا زمكانيا واضحًا a clear place and time extension وهو الربط بين حاضرٍ مؤلمٍ نتيجة غزوٍ امبريالي، ومستقبل قد يكون مجهولاً لبلدٍ تنغمرُ أرقى الأعمال الفنية تحت ركامِ القمامةِ ويعتاشُ عليها بائعوا الخردةِ وسكانِ العشوائيات. وعليه فالقصة تبئير واضح من خلال ثيمةٍ theme جدليّةٍ لابد أن نكون في أعماقها، لندرك أنَّ المستقبلَ لابُدَّ أن يكون مشرقًا بعد استباحة البلاد وانتشار العشوائيات " التي تزاحمت بعد الاحتلال..".
ونتساءل: هل أن عَتَبَةَ القصة حول البحثِ عن لوحةٍ لابدَّ من إرسالِها الى مُبدعها أو أنها قصةٌ لفكرةٍ أعمق؟ وللإجابةُ أجِدُني منحازًا نحو الافتراض الثاني. إنها لوحةٌ تُمثلُ بلدًا أُريدَ له أن يتقسَّمَ ويضيعَ بين غياهبِ الفتنِ وصراعِ الإرادات. إنه العراق الذي لابد ان ينهضَ مزيلًا ركام الويلاتَ جراء السياسات الرعناء والأطماع الدنيئة. " كانت صورةُ اللوحة التي أرسلَها لي صديقي مخزونةً في هاتفي المحمول، لوحةٌ جميلةٌ حقًا، يبدو فيها نهران يخترقان خارطةَ العراق، في إشارة إلى دجلة والفرات، وعشب وأشجار جميلة ونخيل ومصانع ولمسات أخرى، لا أدري كيف وظَّفها بطريقةٍ فنيةٍ باهرة وخرج منها بهذه اللوحة التي قال لي إنها حصلت على جائزةٍ وطنيةٍ في حينها.". إن الإصرارَ في إبداعِ اللوحةِ هو نفسه الذي دفع الصبي في ترميمها ، وها هو يعبر عن ألمهِ واصفًا اللوحة بأنها " لوحةٌ جميلةٌ، لكن للأسف تعرضت للحرق وتشوهت أغلب ملامحها.."
- قلت؛ هل ستتدرب عليها؟
- قال؛ نعم، وسأعيدُها كما كانت، إنها جميلةٌ حقًا..!
غادرتُ وأنا على شبهِ يقينٍ من أنها لوحةُ صديقي ... لأنَّ ما تَبَقّى منها يشبهها تماما!"
وما دام ما تبقى منها يشبهها تامًا، فلابدَّ ان نكونَ على يقينٍ تام. ونلاحظُ هنا جهودَ القاص عبد الأمير المجر في غرسِ الأملِ والثقةِ بالنفسِ، لِكي تتواصل عمليةُ البناءِ بمساهمةِ الكلمةِ الرصينةِ والأدبِ الملتزمِ الذي نراه وبوضوحٍ في الأدبِ العراقيّ على مر العصور..
علي البدر