أحمد بو قرّاعة : تونس
من أكثر النّاس خيانة ؟
ضلّت عينه كلّ سبيل فهي كعين الأعمى يرتدّ بصرها إلى عمق الظّلام. غلّق عليه الأبواب. و ضلّ عقله كلّ طريق فهو كالمسكين تشابكت و تقاطعت و تضايقت أمامه كل الطرق جامدا هامدا تراخت حركته ، نزع منه العمر و العمل نشاطا كان لا يملّه ،ساح فكره محتارا كيف يرى بعض المثقّفين أكثر النّاس خيانة. وعاد يبحث كالمتهرّب في أصل«ثقف» و تاه في ذلك بين لغة و مصطلح و مفهوم و تعريف. و فجأة ضحك ضحكة لا يدري كيف جَادَتْ بها نفسه و قال :"نعم ثقف العود أي بَرَاهُ فصار طرفه حادا... حادا كالمهماز توخز به الحمير و البغال حَثًّا..."
كان رجلًا يَأْكُلُ الكتب أصنافا و اختلافا يبحث عن المرارة فيها . و كلّ مرّ دواء يتجرّعه المريض يطلب به الشّفاء .كذلك كان يقول و أمّا الحلو فغذاء التافهين. و نظر في سقف بيته فإذا به فتيل فانوس يتدلّى كالمشنوق المخنوق رأىصورا لرجال و نساء أكلهم وفاؤهم و استحضرهم الزمن رموزا لكلّ كائن إنسانيّ غضوب في زمانه و مكانه. فانوس يودّعهم بعين جاحظة و باكية و أخرى :" أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد ان يتكلّما ."
ومسك قلما يهمّ بكتابة بعض الأسطر فتجمّدت أصابعه و استعصى عليه الخط و قال بصوت مسموع :" ليس ذلك بغريب . كان ذلك منذ بدء الخليفة ، فلم الحيرة ؟ ... إيجاز في أوّل "البقرة" في المؤمنين وأطناب في الكافرين." ليس كفرا بالله و إنّما هو كفر الناس بالناس و تراءت له من بعيد صورة ابن المقفع يعدم و ابن الرومي يترنّح مسموما و بشار بن برد يقتل بتهمة أذانه سكران في غير وقت الصّلاة . و سمع أيضا أبا نواس ينشد الخليفة ضاحكا مبتهجا "أ أرفضها و الله لم يرفض اسمها و هذا أمير المؤمنين صديقها ؟"
فضحك منه و عليه المتنبي و قد عرّى وجهه للهجير خارجا من قلعة "حلب ... و قد شجّ أبوعلي النحوي رأسه بمفتاح يصيح:
"نعم ... الخيل والليل والبيداء تعرفني والسّيف والرمح والقرطاس والقلم."
و أَسْرى به هذا الشّعر سريعا الى ابن خاقان يوصّي " البحتري" ."خاطبه بما يفهم يا بحتري" فأنعم برأْسِه يقول:" أجمعيهم المتوكّل أم أضعف." وترك الرّجل بيته دون أن يستعد مظهرا الى مجلس قد دُعى إليه فيه أعيان و عيون ورؤوس كبيرة وأخرى صغيرة و أيد طويلة ذات أكفّ عريضة وأخرى " و أوجس منهم خيفة... " وأفواه لها مشافر البغال و الجمال و أخرى رقّت و دقّت ورؤوس ليس لها آذان و أخرى بها قصاع .
كان يعرف مثل هذه المجالس و استقبله البوّاب و لم يضحك له أو يبتسم كان ذلك البوّاب رجلا ضخما و عريضا و أشدّ أناقة منه. و دخل القاعة فرأى خلقا كثيراقلّ أن يرى أمثالهم في الشوارع و بين عامة النّاس و سوادهم و جلس إلى جماعة ألف وجوههم. و بوجه نَضِرٍ نظر إلى صديق قديم أديب مثقّف له في المعرفة نظر و له فيها أراء و له في الحق أقوال و رحّب به مسرورا مستغربا فيه وجه طلقا و عينا باسمه و يدا ناعمة ولباسا فاخرا " فأسرّها في نفسه" و صرّها في حلقه .
وسكن الحاضرون و منهم من صفّق كثيرا فَرَحًا و ترحيبا و لم يكفّ عن ذلك إلّا بأمر. وقام في الناس خطيبٌ فتحدّث بأكثر من لسان في الديمقراطية و في خدمة الشعوب و تحقيق العدل و انحناء الظَّهْرِتعبا و مشقّة يحمل أعباء الناس و أتى كلاما من كلّ أقطار الأرض بما ينفعهم رغم أنّ باللسان تحاذقا فيه كثير تعثّر فالتفت الرّجل الى صديقه الأديب و قال له:
أراد أن يحسّن في مألوف و يغالط تنميقا في مُستهلك مسموع و يبعث حياة في منقضٍ مقبور فعقل وربط لسانه في مكرّر حفظه النّاس و كرهوه وأراد أن يستقدم فصاحة غيره فتعثر حافر لسانه لأبسط حجارة...
أنكر منه صديقه الأديب مقاله و بابتسامة نفث فيها هاروت سحرًاقال : "
ألم تكن بلسان نبي الله موسى عليه السلام عقدة..."
فهمها منه و عرف دائرة بصر عينه و محطّ نفسه و محيطها فأجابه: إذن فاحللْ بلسانك عقدة بلسانه يفقه قوله، ثم ضحك و قال:
والله "لو جاز الغلط على رب العزة لقلت غلط بك و به"
فتركه الاديب ليحاضر في الناس قائلا :
هذا الذي اخترناه و باركناه و باركنا حوله و من حوله.و بَرَكْنَا حوله و له.إنّه الحولأو العام الذي سيغاث الناس فيه. سيزرع الناس و يحصدون و يطمرون، ألم تكن "تؤنس" منذ القديم مطمور روما... السواعد السواعد... ليس فينا خائنون،عاطلون أو قواعد (ويعني قاعدون) فصفق له الحاضرون و أضاف : ستجرى السحابات والغيوم المثقلة نحو ديارنا، و حتى جليد القطبين سيثقب أحشاء الأرض يجري إلينا أنهارا، و حتى "النيل" مجراه و هباته لنا نحن سنصير أمّ الدنيا و بقية البلدان ذراريها
و أشار برأسه الى ذلك الخطيب و قال :
روح و ريحان و فاكهة و رمان و النخل ذات الاكمام فبأي الاء ربكما تكذبان انه الزّارع والحارث وانتم الحاصدون فبأي الاءربّكم قد تشكّون ، انه عصارة جهد النوابغ و "التوابع والزوابع" و "يد موسى تخرج بيضاء من غير سوء" فهو بكم أولى و نحن به "مؤمنون".
فسارع الناس إلى التصفيق و ابتسم له الخطيب. و بدأت أرض القاعة الفسيحة ترتاح من صدى و قع السنابك و الحوافر و بدأ نسيم يتسلل من النوافذ يطهّر فناءها و فضاءها.
وقعد نفر من رجال اخر القاعة يشربون و يتمازحون بادية عليهم نعم من يؤثر نفسه و لو كان بغير خصاصة. و سمع الرّجل أحدهم يثنى بخبث على الأديب لأحد جلاسه يقول: " لمثل هذا يدرس الدّارسون و منّا ينعمون". و بصوت خافت يقول "متّعناه فاستحلى و دعوناه فاستجاب و أمرناه فأطاع فأغلق دماغه عن سوانا، و زدناه فاستعذب و على قدر الكساء يمدّ رجله وليقل غيره ما يشاء فما ضرّنا مدح او قدح. شعرة معاوية نحن صنعناها وهي إلينا دائما فأيدينا المرس و الدّرس الهرس. نحن كالجسم و لكن أضفنا للرجلين ازواجا، و الى الأدي أضعافا. لنا أرجل تضرب في الأرض من أجلنا و"أمطري حيث شئت فحصادك و خراجك راجع اليّ ... و لنا أيد خدم كأنها من الجنّ" تجري بأمرنا... و لم تفسق عن أمر ربّها" فنحن في هذه الأرض" تجري الرياح بأمرنا " لا ترى و يرى النّاس أفعالها و أثارها و تأثيرها و لا حول و لا قوه لهم إلّا النّفس يخرج تنفيسا بكلام لا يشفع بفعل ريح لينة آنا و عاصفة قاصفة دهرا لا تبقي و لا تذر. وكذا أمرنا في الناس "يستميلهم الدّين أحيانا وتقوّمهم العصا دائما ابدا ... و لذلك: " اتتنا الخلافة منقادة إلينا تجرّاذيالها فلا نَصْلُحُ الا لها و لا تصلح إلّا لنا " و التفت الرّجل الى الاديبِ و قال له:
-"لو أنّ الذي كنت تمدح كان قويا متينا عارفا مؤثرا على نفسه صادق السعي والوعد لَكُنْتُ له الظهر واليد والعقل ولكنها حظوظ لجهّالٍ في زمن ردئ ... و اذكر في الكتاب: ما صاحب الملك الا كصاحب الحية ليس يدري متى تنقلب عليه فتلدغه
و ما أمْرك و هؤلاء إلاّ كتلك المرأة التي قالت للجاحظ اتبعني فتبعها فقالت للصائغي ارسم لي صورة ابليس على خاتمي فقال لها: و أنّى لي بصورته فأشارت إلى الجاحظ..."
وَ رَدَّ عليه بعضُ من كان صَامِتًا: "ليس العيب فيما يقال أو في صاحبه و إنّما العيب في مَن يصدّقُ مَا يُقَالُ..."
و خَلَتْ القَاعَة و استراحت من أعجاز النخل و أرداف البِغَالِ فخرج الرّجل مطرِقًا مفكّرًا يَقُولُ : " تبّا لهذه الشعوب، آذان عُيُوبٌ... كلها تلوك الكلام لتبتلعه..."
ثمّ قال بصوت مسموع:
أكان " التوحيدي على حَقٍّ حين أحرق كُتُبَهُ؟! مَا كَانَ ظَنُّهُ؟! وَ عَلى مَن كَان بِهَا يَضِنُّ؟!"