mercredi 4 mai 2022

أحمد بو قرّاعة : تونس
من أكثر النّاس خيانة ؟
ضلّت عينه كلّ سبيل فهي كعين الأعمى يرتدّ بصرها إلى عمق الظّلام. غلّق عليه الأبواب. و ضلّ عقله كلّ طريق فهو كالمسكين تشابكت و تقاطعت و تضايقت أمامه كل الطرق جامدا هامدا تراخت حركته ، نزع منه العمر و العمل نشاطا كان لا يملّه ،ساح فكره محتارا كيف يرى بعض المثقّفين أكثر النّاس خيانة. وعاد يبحث كالمتهرّب في أصل«ثقف» و تاه في ذلك بين لغة و مصطلح و مفهوم و تعريف. و فجأة ضحك ضحكة لا يدري كيف جَادَتْ بها نفسه و قال :"نعم ثقف العود أي بَرَاهُ فصار طرفه حادا... حادا كالمهماز توخز به الحمير و البغال حَثًّا..."
كان رجلًا يَأْكُلُ الكتب أصنافا و اختلافا يبحث عن المرارة فيها . و كلّ مرّ دواء يتجرّعه المريض يطلب به الشّفاء .كذلك كان يقول و أمّا الحلو فغذاء التافهين. و نظر في سقف بيته فإذا به فتيل فانوس يتدلّى كالمشنوق المخنوق رأىصورا لرجال و نساء أكلهم وفاؤهم و استحضرهم الزمن رموزا لكلّ كائن إنسانيّ غضوب في زمانه و مكانه. فانوس يودّعهم بعين جاحظة و باكية و أخرى :" أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا  من الحسن  حتى كاد ان يتكلّما ."
ومسك قلما يهمّ بكتابة بعض الأسطر فتجمّدت أصابعه و استعصى عليه الخط و قال بصوت مسموع :" ليس ذلك بغريب . كان ذلك منذ بدء الخليفة ، فلم الحيرة ؟ ... إيجاز في أوّل "البقرة" في المؤمنين وأطناب في الكافرين." ليس كفرا بالله و إنّما هو كفر الناس بالناس    و تراءت له من بعيد صورة ابن المقفع يعدم و ابن الرومي يترنّح مسموما و بشار بن برد يقتل بتهمة أذانه سكران في غير وقت الصّلاة . و سمع أيضا أبا نواس ينشد الخليفة ضاحكا مبتهجا "أ أرفضها و الله لم يرفض اسمها و هذا أمير المؤمنين صديقها ؟"
فضحك منه و عليه المتنبي و قد عرّى وجهه للهجير خارجا من قلعة "حلب ... و قد شجّ أبوعلي النحوي رأسه بمفتاح يصيح:
"نعم ... الخيل والليل والبيداء تعرفني  والسّيف والرمح والقرطاس والقلم."
و أَسْرى به هذا الشّعر سريعا الى ابن خاقان يوصّي " البحتري" ."خاطبه بما يفهم يا بحتري" فأنعم برأْسِه يقول:" أجمعيهم المتوكّل أم أضعف." وترك الرّجل بيته دون أن يستعد مظهرا الى مجلس قد دُعى إليه فيه أعيان و عيون ورؤوس كبيرة وأخرى صغيرة و أيد طويلة ذات أكفّ عريضة وأخرى " و أوجس منهم خيفة... " وأفواه لها مشافر البغال و الجمال و أخرى رقّت و دقّت ورؤوس ليس لها آذان و أخرى بها قصاع .
كان يعرف مثل هذه المجالس و استقبله البوّاب و لم يضحك له أو يبتسم كان ذلك البوّاب رجلا ضخما و عريضا و أشدّ أناقة منه. و دخل القاعة فرأى خلقا كثيراقلّ أن يرى أمثالهم في الشوارع و بين عامة النّاس و سوادهم و جلس إلى جماعة ألف وجوههم. و بوجه نَضِرٍ نظر إلى صديق قديم أديب مثقّف له في المعرفة نظر و له فيها أراء و له في الحق أقوال و رحّب به مسرورا مستغربا فيه وجه طلقا و عينا باسمه و يدا ناعمة ولباسا فاخرا " فأسرّها في نفسه" و صرّها في حلقه .
وسكن الحاضرون و منهم من صفّق كثيرا فَرَحًا و ترحيبا و لم يكفّ عن ذلك إلّا بأمر. وقام في الناس خطيبٌ فتحدّث بأكثر من لسان في الديمقراطية و في خدمة الشعوب و تحقيق العدل و انحناء الظَّهْرِتعبا و مشقّة يحمل أعباء الناس و أتى كلاما من كلّ أقطار الأرض بما ينفعهم رغم أنّ باللسان تحاذقا فيه كثير تعثّر فالتفت الرّجل الى صديقه الأديب و قال له:
أراد أن يحسّن في مألوف و يغالط تنميقا في مُستهلك مسموع و يبعث حياة في منقضٍ مقبور فعقل وربط لسانه في مكرّر حفظه النّاس و كرهوه وأراد أن يستقدم فصاحة غيره فتعثر حافر لسانه لأبسط حجارة...
أنكر منه صديقه الأديب مقاله و بابتسامة نفث فيها هاروت سحرًاقال : "
ألم تكن بلسان نبي الله موسى عليه السلام عقدة..."
فهمها منه و عرف دائرة بصر عينه و محطّ نفسه و محيطها فأجابه: إذن فاحللْ بلسانك عقدة بلسانه يفقه قوله، ثم ضحك و قال:
والله "لو جاز الغلط على رب العزة لقلت غلط بك و به"
فتركه الاديب ليحاضر في الناس قائلا :
هذا الذي اخترناه و باركناه و باركنا حوله و من حوله.و بَرَكْنَا حوله و له.إنّه الحولأو العام الذي سيغاث الناس فيه. سيزرع الناس و يحصدون و يطمرون، ألم تكن "تؤنس" منذ القديم مطمور روما... السواعد السواعد... ليس فينا خائنون،عاطلون أو قواعد (ويعني قاعدون) فصفق له الحاضرون و أضاف : ستجرى السحابات والغيوم المثقلة نحو ديارنا، و حتى جليد القطبين سيثقب أحشاء الأرض يجري إلينا أنهارا، و حتى "النيل" مجراه و هباته لنا    نحن سنصير أمّ الدنيا و بقية البلدان ذراريها
و أشار برأسه الى ذلك الخطيب و قال :
روح و ريحان و فاكهة و رمان و النخل ذات الاكمام فبأي الاء ربكما تكذبان انه الزّارع والحارث وانتم الحاصدون فبأي الاءربّكم قد تشكّون ، انه عصارة جهد النوابغ و "التوابع والزوابع" و "يد موسى تخرج بيضاء من غير سوء" فهو بكم أولى و نحن به "مؤمنون".
فسارع الناس إلى التصفيق و ابتسم له الخطيب. و بدأت أرض القاعة الفسيحة ترتاح من صدى و قع السنابك و الحوافر و بدأ نسيم يتسلل من النوافذ يطهّر فناءها و فضاءها.
وقعد نفر من رجال اخر القاعة يشربون و يتمازحون بادية عليهم نعم من يؤثر نفسه و لو كان بغير خصاصة. و سمع الرّجل أحدهم يثنى بخبث على الأديب لأحد جلاسه يقول: " لمثل هذا يدرس الدّارسون و منّا ينعمون". و بصوت خافت يقول "متّعناه فاستحلى و دعوناه فاستجاب و أمرناه فأطاع فأغلق دماغه عن سوانا، و زدناه فاستعذب و على قدر الكساء يمدّ رجله وليقل غيره ما يشاء فما ضرّنا مدح او قدح. شعرة معاوية نحن صنعناها وهي إلينا دائما فأيدينا المرس و الدّرس الهرس. نحن كالجسم و لكن أضفنا للرجلين ازواجا، و الى الأدي أضعافا. لنا أرجل تضرب في الأرض من أجلنا و"أمطري حيث شئت فحصادك و خراجك راجع اليّ ... و لنا أيد خدم كأنها من الجنّ" تجري بأمرنا... و لم  تفسق عن أمر ربّها" فنحن في هذه الأرض" تجري الرياح بأمرنا " لا ترى و يرى النّاس أفعالها و أثارها و تأثيرها و لا حول و لا قوه لهم إلّا النّفس يخرج تنفيسا بكلام لا يشفع بفعل ريح لينة آنا و عاصفة قاصفة دهرا لا تبقي و لا تذر. وكذا أمرنا في الناس "يستميلهم الدّين أحيانا وتقوّمهم العصا دائما ابدا ... و لذلك: " اتتنا الخلافة منقادة  إلينا تجرّاذيالها فلا نَصْلُحُ الا  لها و لا تصلح إلّا لنا " و التفت الرّجل الى الاديبِ و قال له:
-"لو أنّ الذي كنت تمدح كان قويا متينا عارفا مؤثرا على نفسه صادق السعي والوعد لَكُنْتُ له الظهر واليد والعقل ولكنها حظوظ لجهّالٍ في زمن ردئ ... و اذكر في الكتاب: ما صاحب الملك الا كصاحب الحية ليس يدري متى تنقلب عليه فتلدغه
و ما أمْرك و هؤلاء إلاّ كتلك المرأة التي قالت للجاحظ اتبعني فتبعها فقالت للصائغي ارسم لي صورة ابليس على خاتمي فقال لها: و أنّى لي بصورته فأشارت إلى الجاحظ..."
وَ رَدَّ عليه بعضُ من كان صَامِتًا: "ليس العيب فيما يقال أو في صاحبه و إنّما العيب في مَن يصدّقُ مَا يُقَالُ..."
و خَلَتْ القَاعَة و استراحت من أعجاز النخل و أرداف البِغَالِ فخرج الرّجل مطرِقًا مفكّرًا يَقُولُ : " تبّا لهذه الشعوب، آذان عُيُوبٌ... كلها تلوك الكلام لتبتلعه..."
ثمّ قال بصوت مسموع:
أكان " التوحيدي على حَقٍّ حين أحرق كُتُبَهُ؟! مَا كَانَ ظَنُّهُ؟! وَ عَلى مَن كَان بِهَا يَضِنُّ؟!"
و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..."

الشاعر يوشع علي إسماعيل

زجل قصيد باللهجه العاميه اللبنانيه  ............... خمسين عام البحر هادر                          على موجوا ما حدا قادر طاف بحر الشعر مره   ...