ما يَوْمُ حَلِيمَةَ بِسِرٍّ!
هَلْ نَحْنُ فِي حُلْمٍ أَمْ عِلْمٍ؟
هَلْ ما نُشاهِدُهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ عِنْدَ الْإفْراج عَنِ الرَّهائِنِ حَليمَةً أُخْرَى تَنْثُرُ وُرودًا أَمْ عِطْرًا؟
حَليمَةُ بِنْتُ الْحارِثِ بْنِ أَبِي شّمِرٍ الْغَسّانِيِّ. ذَكَرَها التّاريخُ مِنْ أَوْسَعُ أَوْبابِهِ. لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيانِ وَلَيْسَتْ أُسْطُورَةً، وَإنَّما حَقِيقَةٌ تارِيخِيَّةٌ مُثْبَتَةٌ أَدَقَّ إثْباتٍ وَتَوْثِيقٍ .
لِذَلِكَ قِصَّةٌ تارِيخِيَّةٌ طَرِيفَةٌ.
بَطَلُ الْقِصَّةِ الشّاعِرُ الْكاهِلِيُّ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ التَّمِيمِيُّ. كَانَ لِهَذا الشَّاعِرِ الْجاهِلِيُّ أَخٌ يُدْعَى شَأْسًا وَقَعَ أَسِيرًا فِي يَدِ الْحارِثِ ابٍنِ أَبِي شَمِرٍ، هُوَ وَثُلَّةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، في مَعْرَكَةِ يَوْمْ أَباغ، الَّتِي حَضَرَتْها حَلِيمَةُ وَبَيْنَ يَدَيْها قَصْعَةُ مِسْكٍ، تُطَيِّبُ بِها فُرْسانَ أَبِيها وَتَحُثَّهُمْ عَلى الْقِتالِ وَالصُّمُودِ.
نَظَمَ الشّاعِرُ عَلْقَمَةُ قَصِيدَةً مِنَ الطِّوالِ ، مَدَحَ فِيها الْحارِثَ وَجُنُودَهُ، وَوَصَفَ الْمَعْرَكَةَ وَصْفًا رائِعًا دَقيقًا كَأَنَّنا تُشاهِدُها:
بَدَأَهَا بِالنَّسِيبِ فَقالَ يُخاطِبُ نَفْسَهَ: مِنَ الطَّوِيلِ
- طَحّا بِكَ قَلْبٌ بِالْحِسانِ طَرُوبُ
بُعَيْدَ الشَّبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُ
- يُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُها
وَقَدْعادَتْ عَوادٍ بَيْنَنا وَخُطُوب
(الْوَلْيُ: الْقُرْبُ)
ثُمَّ يَخْلُصُ مِنَ النَّسِيبِ لِيَصِفَ رِحٍلَتَهُ الصَّحْراوِيَّةَ فِي بادِيَةِ الشّامِ، وَما فيها مِنْ أَهْوالٍ لِيَصِلَ إلَى مَضارِبِ الْحارِثِ فِي أَطْرافِ الشَّامِ. وَاسْتَقْبَلَهُ الْحارِثُ، وَوَقَفَ الشّاعِرُ يَمْدَحُ الْمَلِكَ وَيُثْنِي عَلَى بُطُولَتِهِ فِي دَحْرِ جَيْشِ الْمَناذِرَةِ وَقَتْلِ مَلِكِهِمْ. وَهَذِهُ مُخْتاراتٌ مُنْها:
- فَلا تَحْرِمَنِّي نائِلًا عَنْ جَنابَةٍ
فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبابِ غَرِيبُ
(النّائلُ: الْعَطاءُ؛ الْجَنابَةُ: الْبُعْدُ وّالْخِطابُ لِلْحارِثِ ؛ الْقِباب: جَمْعُ قُبَّةٍ وَهِيَ الْخَيْمَةُ الٍكَبِيرَةُ مِنْ جِلْدٍ)
- فَوَاللهِ لَوْلا فارِسُ الْجَوْنِ مِنْهُمُ
لّآبُوا خَزايا وَالْإيابُ حَبِيبُ
(فارسُ الْجَوْنِ: يَعْنِي الْحارِثَ، الْجَوْنُ صِفَةٌ بَدَلَ مَوْصُوفٍ وَهُوَ الْحِصانُ الْأَحْمَرُ أَوِ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدادِ. آَبُوا: رَجَعُوا، الْمُرادُ فُرْسانُ الْحارِثِ، خَزايا: خَجِلِينَ. وَجُمْلَةُ الْإيابُ حَبِيبُ حالِيَّةٌ)
- وَأَنْتَ امْرُؤٌ أَفْضَتْ إلَيْكَ أَمانَتِي
وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ
(أَفْضَلَتْ: وَصَلَتْ، أَمانَتِي: يَعْنِي أَخاهُ شَأْسًا؛ الرُّبُوبُ جَمْعُ رَبٍّ وَهُوَ الْمَلِكُ)
- تُقَدِّمُهُ حَتَّى تَغِيبَ حُجُولُهُ
وَأَنْتَ لِبَيْضِ الدّارِعِينَ ضَرُوبُ
(تُقَدِّمُهُ ضَميرُ الْمُخاطَبِ يَعُودُ لِلْحارِثِ، وَضَمِيرُ الْغائبِ لِلْجَوادِ،
الحُجُولُ جَمْعِ حِجْلِ ، وَهُوَ ما يُوضَعُ في رِجْلِ الْمَرْأَةِ، اسْتَعارَهُ الشّاعِرُ لِحِصانِهِ لِأَنَّهُ كَالْمُحَجَّلِ لِوُجُودِ شَعْرٍ أَبْيَضَ فَوْقَ حَوافِرِهِ، وَهُوَ مِنْ عَلاماتِ الْعِتْقِ وَالْأَصالَةِ في الْخَيْلِ . الْبَيْضُ جَمْعُ بَيْضَةُ وَهِيَ الْخُوذَةُ الّتي تُوضَعُ فَوْقَ رَأسِ الْمُقاتِلِ؛ ضَرُوبُ: صِيغَةُ مُبالَغَةٍ مِنْ ضَرَبَ)
- مُظاهِرُ سِرْبالَيْ حَدِيدٍ عَلَيْهِما
عَقِيلا سُيُوفٍ مِخْذَمٌ وَرَسُوبُ
(مُظاهِرُ: لابِسٌ ثَوْبًا فَوْقَ ثَوْبٍ أَوْ دِرْعًا فَوْقَ دِرْعٍ ، السِّرْبالُ: الثَّوْبُ اُسْتُعِيرَ لِلدِّرْعِ ، الْعَقِيلُ: خَيْرُ ما يَمْتَلِكُ الْإنْسانُ؛ الْمِخَذَمُ: السَّيْفُ الْقاطِعُ؛ الرَّسُوبُ: الَّذي يَمْضي وَيَرْسُبُ في الضَّريبَةِ. كانَ الْحارِثُ يُظاهِرُ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ، وَيَتَقَلَّدُ سَيْفَيْنِ)
- فَقاتَلْتَهُمْ حَتَّى اتَّقَوْكَ بِكَبْشِهِمْ
وَقَدْ حانَ مِنْ شَمْسِ النّهارِ غُرُوبُ
(كَبْشِهِمْ: قائِدِهِمُ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ ابْنُ ماءِ السَّماءِ مَلِكِ الْحِيرَةِ في الْعِراقِ )
وَهَكَذا اِنْتَهَى يَوْمُ أَباغ وَهُوَ مَكانٌ شَمالَ الْعِراقِ وَقَعَتْ فِيهِ الْمَعْرَكَةُ الَّتي حَضَرَتْها حَليمَةُ. وَبَقِيَ مَطْلَبُ الشّاعِرِ بِفَكِّ أَسْرِ أَخِيهُ فَقالَ بَيْتَهُ الْمَشْهُورَ:
- وَفي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ
فَحَقٌّ لِشَأْسٍ مِنْ نَداكَ ذَنُوبُ
(خَبَطَ بِالنِّعْمَةِ: أَعْطاها حَتَّى لِمَنْ لا يَعْرِفُهُ. النَّدَى : الْجُود، الذَّنُوبُ: الدَّلْوُ وَكَنَّى بِهِ عَنِ الْحِصَّةِ. كّأَنَّهُ قالَ: نَعِيمُكَ أَيُّها الْمَلِكُ غَمَرَ الْقاصِي والدّاني أَلَا يَحِقُّ لِشَأْسٍ حِصَّةّ؟)
فَصاحَ الْحارِثُ قائِلًا: وَأَذْنِبَةٌ. وَأَطْلَقَ سَراحَ أَخيهِ وَجَماعَةٍ مِنْ بَني تَميمٍ.
ا.ه.
