✍️ بقلم: جبران العشملي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرجت العجوز مع الفجر،
لا لأن الشمس استعجلت حضورها،
بل لأن العطش يُوقظ الأرواح قبل الضوء.
الهواء ثقيل برائحة الغبار،
والأزقة لا تزال تفرك عينيها من تعب الليل.
تمشي كتفاها النحيلان، محمّلتين بدبّتين من البلاستيك المتهالك،
لكن ما تحمله ليس ماءً فقط…
بل عمرًا مكسورًا، وخذلانًا متراكمًا، وخطى مثقلة بوجع بلدٍ
اعتاد أن يُحمّل الضعفاء ما لا يُحتمل،
ويدلّل الأقوياء بما لا يُستحق.
كل خطوةٍ منها كانت تشيخ،
تتكسر تحتها حجارة الطريق،
وتتنهد الأزقة بصوتٍ خافت،
حتى الجدران كانت تشيح بوجوهها كي لا تبكي.
هي لا تسأل،
ولا ترفع عينيها نحو المارّين،
كأنها تعرف يقينًا أن في هذه البلاد
لا أحد يملك ما يكفي من الكرامة
ليمنحها قطرة ماء دون أن يغرس فيها سكين المنة.
تسير…
وصوت البلاستيك يئنّ على الإسفلت كذكريات مقهورة،
كأنها تمشي في جنازةٍ لا أحد يعرف من فيها،
سوى قلبها الذي يحمل نعش الوطن،
بيدين مشققتين من الغياب…
ولا شهود.
وفي مكانٍ آخر،
تحت ضوء ناعم لا يشبه الشمس،
وفي قاعاتٍ لا يدخلها الغبار ولا الندم،
يتجادل الساسة عن "سبل التنمية"،
وتُلقى الخُطب على موائد من البلّور،
بينما في الخارج، كانت تلك العجوز تتصبب عطشًا،
ويتبخر جسدها كما تبخرت وعودهم.
هي لا تعرف معنى "الخطط الخمسية"،
ولا معنى "التوازنات الدولية"،
تعرف فقط أن الماء حياة،
وأن عليها أن تعود إلى بيتها
ولو جفّت روحها على الطريق.
هذه ليست مشهدًا سينمائيًا رماديًا،
ولا لقطةً لمراسلٍ يبحث عن الإثارة،
بل هي حياة تُعاش… كل يوم.
في وطنٍ صارت فيه الأم تحمل "دبّة ماء"
كما لو كانت تُشيّع بها ما تبقى من كرامتها… أو ما تبقى من ابنٍ لم يعد.
---
✦ فهل ما زلتم تتساءلون عن معنى السقوط؟
السقوط لا يحدث حين تتهاوى الأبنية…
بل حين تنحني أمٌّ في الشارع بهذا الشكل،
وتنكسر روحها على مرأى الوطن،
ولا أحد يرتجف.