بقلم: ليلى رمضان ڤموح
قتلته لأعيش
كانت في غرفة الانتظار عند الطبيب النفسي، تتطلع إلى الحضور، وتنظر إلى أمها وهي تجلس عن يمينها. والحزن يصافح عيونها كلما حدقت إليها.
كان الوقت صباحًا، فاقتربت منها الممرضة قائلة:
"تفضلي سيدتي، الطبيب في الانتظار."
تقدمت بخطى متثاقلة، ثم أدارت برأسها إلى أمها وكأنها تسألها:
"ألا تدخلين معي؟"
أشارت لها أمها بيدها بأن تذهب.
جالت بنظرها في غرفة الطبيب وهي تتفحص كل جزء منها.
قال الطبيب:
"اجلسي."
جلست، وقد تسلل بداخلها شعور لم تفهمه.
حينها استطرد الطبيب قائلًا:
"ما اسمك؟"
قالت:
"كوثر"، والخوف يعتريها.
كوثر أم لطفلين. كانت حياتها هادئة، مفعمة بالبهجة، وكان زوجها محبًا لها، إلا أن جاء ذلك اليوم المشؤوم حين اكتشفت خيانته لها.
تسارعت دقات قلبها، وأصابها ضيق في التنفس، واصفر وجهها، وسقطت مغشيًّا عليها.
بعدما تم إسعافها وأخذها إلى المستشفى، عادت إلى منزلها وهي لا تتكلم مع أحد، وأصابها الاكتئاب وكانت قليلة الكلام.
استمر الحال هكذا حتى في يوم من الأيام سمعت أمها صراخ طفليها في الحمام، فهرولت مسرعة، وإذا بها ترى ابنتها وقد ملأت حوض الحمام بالماء، وضعت فيه طفليها تريد إغراقهما.
وكانت تقول:
"لا أريدهما يا أمي، لا أريدهما!"
أغلقت السيدة مريم الحنفية، وأخرجت الطفلين من الحمام، وهي تقول لها:
"هل جننتِ؟ وما ذنبهما؟"
قالت كوثر:
"إنه والدهما، ذلك الذي خانني. هو صوت في رأسي يا أمي، يخبرني بأن أقتلهما. إنه هو، لا يريد تركي بسلام!"
وغرقت في بكاء هستيري.
مرت الأيام، وكانت كوثر تسمع الصوت باستمرار ويحدثها بأن تقتل طفليها. وكل مرة كانت تتدخل السيدة مريم وتنقذهما.
وفي يوم صادف أن تحدثت السيدة مريم عن حالة ابنتها مع جارتها، وأخبرتها بظروف كوثر، فنصحتها الأخيرة أن تأخذ ابنتها إلى الطبيب النفسي، لأن كوثر فيها "خَطَب ما"، ومن الممكن أن تحدث كارثة لو استمرت على هذا الحال.
حينها قررت الأم أن تعرض ابنتها على الطبيب النفسي، بعد أخذ ورد مع ابنتها التي كانت ترفض الفكرة وتقول إنها ليست مجنونة، لكن السيدة مريم لم تفشل. وفي كل مرة تحاول كوثر أن تؤذي أطفالها كانت تقول لها:
"يا ابنتي، هذا هو ما جعلني أفكر في الطبيب النفسي. هو ليس وحشًا، وأنتِ لستِ مجنونة، وليس كل من يذهب إليه يعتبر مختلًا. لكنه سوف يسمع لك ويحاول إخراج هذا الصوت الذي في رأسك يا حبيبتي. أنا أشفق على هذين الطفلين، أخاف أن يصيبهما مكروهًا، ولن تسامحي نفسك، وحتى أنا لن أسامح نفسي!"
ترددت كوثر كثيرًا لقبول فكرة أمها، لكنها في الأخير انصاعت لوالدتها وقررت الذهاب للطبيب النفسي الذي حدد مرضها على أنه "الوسواس"، وهو عبارة عن رغبات ملحة تسيطر على المريض مرارًا وتكرارًا لفعل شيء ما.
وعندما سأل الطبيب كوثر، قالت:
"إن هناك صوتًا بداخلي يدفعني إلى قتل أطفالي، وحاولت منعه في العديد من الأحيان، ولكنني خائفة من أن تسيطر عليَّ الفكرة وألحق بهم الأذى. أنا يا دكتور، أحس في تلك اللحظة أنني إنسان آخر، ولستُ أنا."
وبعد عدة أسئلة طرحها الطبيب على المريضة، اكتشف أن هذا المرض حدث نتيجة لصدمة نفسية، وهي تعرضها للخيانة من طرف زوجها. فحدث لها نوع من عدم التقبل للوضع ورفض الواقع، مما أدى إلى نكران أي شيء يذكرها بهذا الزوج الخائن، حتى أطفالها وهي الأم.
بدأ الطبيب في جلسات علاجية بالاتفاق مع المريضة والأم، وذلك بوصف أدوية للاكتئاب وأخرى تساعدها على النوم.
كانت كوثر، كلما يخالجها الشعور بقتل أطفالها، تدخل الحمام وتفتح المراش، وتجلس في الحوض وهي تبكي بمرارة.
وكلما همس لها ذلك الصوت، تقول له:
"لن أفعل، اذهب عني، أخرج من رأسي..."
وظلت على هذا الحال، تصارع نفسها.
وكانت تلجأ إلى طبيبها النفسي الذي كان في كل مرة يعطيها جرعة أمل، ونصحها بأن تخرج من هذه العزلة وتغير روتين حياتها بأن تشغل وقتها بأشياء مفيدة، كأن تمارس الرياضة وتقرأ الكتب.
وذات ليلة، وهي نائمة، استيقظت على همس ذلك الصوت، فاستسلمت له وحملت طفلها. وما كادت تفعل حتى استيقظ، ونظر إليها مبتسمًا.
تجمّدت مكانها وهي تنظر إليه، وهو يقول:
"ماما..."
انهمرت دموع من مقلتيها، وفي لحظة صراع بين ما يجول في ذهنها وبين أمومة باتت تفرض نفسها في هذا الواقع المكلوم.
تزاحمت كل المشاعر، واصطدمت ببعضها، وتركّت مجالًا لحنان الأم وعطفها.
حينها، احتضنت صغيرها وراحت تناجي الله:
"يا إلهي، شكرًا لك على هذه النعمة، وأطلب منك العفو والمغفرة."
وأسرعت إلى طفلها الآخر واحتضنته، ونامت بالقرب منهما.
في الصباح، قررت أن تنسى الماضي بآلامه، وأن تكون شخصًا آخر.
وعدت نفسها بالمضي قدمًا، وبالفعل بدأت كوثر في تغيير حياتها، وأصبحت تطالع الكتب وتخرج رفقة أبنائها، وتمارس رياضة المشي.
ابتعدت عن الاكتئاب، وأدركت أن نهاية زواجها ليس نهاية العالم، وإنما هو بداية لحياة جديدة، تحياها بمفردها رفقة طفليها اللذين يمثلان الأمل بالنسبة لها.
حتى الطبيب بدأ في إنقاص جرعات الدواء في كل مرة.
وها هي تزوره للمرة الأخيرة، فقد قال لها:
"إنكِ يا كوثر، امرأة قوية، وقد استطعتِ أن تشفي من هذا الوسواس."
تذكرت كل ما مر عليها من ألم ودموع، وعند عودتها إلى المنزل، اتجهت صوب درج كانت تضع فيه أدويتها، وأخرجت كل ما فيه، ورمت بها في الحاوية، وابتسمت.
ثم قالت: