«حين يتـريث الزمـن»
(الفصل 3: موݣادور... بين الأمـس والحـاضر)
كانت عقـارب الساعـة قد قـاربت الظهـيرة حين بلغـلنـا مشارف موݣـادور. الشمـس في ذروتهـا تتـلألأ فوق الأسـوار البرتغـالية، والريـح البحـرية اقتـادتنـا نحو مطعـم صغـير عند حـافة المينـاء، "Chez Sam"، حيث كان دخـان المشـاوي يتصاعـد ممـتزجـا برائحـة الفحـم، كطقـس بـدائي يوقـظ الحـواس.
جلسنـا في زاويـة مطلّـة على المـرفـأ، والمراكـب تتمـايل بخـفـة على المـوج، تنسجـم مع نـداءات الصيـادين العـائدين من رحلـتهم، طلبنـا سمـكا مشويـا مع شـرائح الليمـون، وسلـطة مغـربية تفـوح منها الكزبـرة الطازجة. وبين لقـمـة وأخـرى، كان حسـن يتـأمـل المشهد بعـينين تغـوصان في عمـق اللحـظة، قبل أن يهمس :
— "كل مدينـة نكتشـف خـبـايـاهـا تفـتح فصـلا جـديدا في سجـل ذكـريـاتنـا."
ثم أردف بنبـرة أعمـق :
— "هذه الوجـهة الساحـلية ليست عـبورا عـابـرا يـا فـاطمـة، بل صفحـة أخـرى في أرشيفـنـا العـاطفي."
حين غـادرنـا المطعـم، بـدت الأزقـة كأنهـا تنفـتح على ذاكـرة مدينـة تـأبـى أن تشـيخ. الأسـوار المَنيعـة تتـراءى كحـارس أبـدي يراقـب البحـر منذ قـرون، حجـارتهـا المشبعـة بملـح الأزمـنة تـروي قصص الغـزوات والقوافـل العـابرة.
سـرنـا بمحـاذاة الدروب الحجـرية المتـوارثـة، كانت الأبـواب الخشـبية المـزدانـة بمسامـير ضخمـة تنفـتح على سراديـب لمحلات قـديمـة، تفـوح منهـا روائـح العـنبر واللُّبـان، كأن المكان بأسـره يتحـدث بلغـة المـاضي.
توقفنـا عند بـوابـة عـريضـة يتدلى فوقهـا مصبـاح نحـاسي، استوقفنـا شـيخ عـارف بأسـرار الأزقـة، فبـدأ يـروي :
هنـا كان يتقـاطع التجـار من كل الأديـان...
يهـود حملـوا أسـرار التجـارة البحـرية، وأوروبيون جـاؤوا ببضـائـع بعـيدة، ورحـالة من الصحـراء جلبـوا معهم القصص والحكايات.
تـابعـنـا السـير حتى بلـغنـا المـلاّح القـديم، حيث مـا زالـت النوافـذ الزرقـاء تطل على أحـيـاء تـاريخـية، تخـتزن همسات زمـن كان فيه اليهـود جـزءا من نبـض المكـان، يُديـرون المِلاحـة البحـرية، ويشاركون في نسـق الحـيـاة اليومـية.
ومن هنـاك، لاح لنـا المـرسى العتيـق بسفـنه الراسـية التي تعكس صورة مـدينـة عـاشـت على إيقـاع البحـر والريـح، وتحـولت عـبر العصـور إلى مينـاء مفـتوح على العـالم.
ومـا إن توغـلنـا في الأزقـة، حتى انسـابت إلى مسامعنـا أنغـام عـود أنـدلـسي شجـية، كأنها آتـية من زمـن بعـيد.
قـال حسـن وهو يغـوص في حـنين بعـيد :
– “إنها موسيـقى الأندلسيين، حملـهـا المورسكيون يـوم طُـردوا من الفـردوس الضائـع، فاستقـرت هنـا بين الريـح والبحـر.”
لم نبتعـد كثيرا حتى انبعـثت من زقـاق خفـي أنغــام ݣنـاوية، محمـولة بصوت القراقـب المعـدنية ودقـات الطبـول. هنـاك التقـت النغـمـة الأندلسـية الحـزينـة بالإيقـاع الإفـريقي المتـرنّـم، فبـدت الصـورة كاحتفـال سـري يوحّـد المنـفى بالذاكـرة، والبحـر بالصحـراء.
توقفنـا بلا وعـي، أغمضت عـيني للحـظة، فتجـلى لي التـاريخ يعـزف موسيقـاه على حـركة المهـاجـرين والبحـارة والمتصـوفين ...
كل زاويـة تحـولت إلى آلـة وتـريـة تعـزف سيمفـونية منفـية، لكنها لا تـزال نـابضـة بالحـيـاة.
غـادرنـا الأزقـة، وقد بقـي فينـا صـدى تلك الموسيـقى، وأدركـت أن لكل حكـاية بدايـة في حضن الجـبل، ونهـاية تحمـلها أمـواج البحـر.
بعـد رحـلة طويلـة، بلغـنـا الدار البيضـاء حين شـارف الغـروب على المـدينـة، وخـيم صمت ثقـيل، كأنها تتـأهـب صخـب العـائدين.
ظل يتـرصـد نظـراتي، ثم همـس :
— "فـاطمـة... هـا قـد وصلنـا."
اكتفـيت بابتسامـة صـامـتة، لكنني كنت أعلـم أن شيئـا مني ظل هنـاك ..
في حضن الجـبل بين لمحـة أمنـاي وابتسامـة تاوسّـا، وبين حكمـة تغنجـا، ورقصة أحـواش،
حيث يولـد الحـب وتـواصل الحكايات نسـج فصولهـا القـادمـة ...
يتبـع ...