بعد أداء صلاة العشاء جلس يوسف وحيدا في غرفته يشاهد التلفاز حتي يتابع الأخبار
في الغرفة المجاورة أبناء عمه أحمد ومحمود
يتابعان أحد الأفلام القديمة ، فجأة
دون سابق إنذار سمعوا دوي إنفجارات كبيرة وأصوات طلقات رصاص كثيفة ،
إنضم أحمد ومحمود إلي يوسف وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ويتسائلون ماذا يحدث ؟
وما هذه الأصوات؟،
لم تمض سوى دقائق وأخذت هياكل الطلقات الفارغة تتساقط فوق السطح المعدني المصنوع من الزنك، غلب عليهم جميعا ضحك هيستيري
وصاح يوسف قائلا : الأيام القادمة ستكون جميلة كما يبدو وتابع الضحك،
ظلت أصوات الإنفجارات طوال الليل لم تهدأ سوى بعدأذان الفجر ،
ذهب يوسف وأولاد عمه للوضوء والصلاة،
ثم ناموا لسويعات قليلة بعد هذه الليلة المرعبة ، في الصباح جاء صلاح صديق يوسف
وأخده بسيارته لإحضار كمية كبيرة من الطعام لأن الوضع يبدو خطيرا وقد لا يتمكن من الخروج من السكن لمدة طويلة ، رجعوا بسلام وكان يشغل بال يوسف صديقه عبدالرحمن الذي سيصل قريبا قادما من مدينة أخرى ليستقر معه عله يجد فرصة عمل ،مضى الوقت بطيئا كما يمر دوما على المترقب وأخيرا وصل عبدالرحمن واستقبله يوسف بالأحضان ،
لم يره منذ أربعة أعوام وآخر مرة رآه فيها كانت في السنة الأخيرة من الدراسة، جلسا معاً وتناولا الطعام مع أحمد ومحمود وسهروا حتي منتصف الليل والحمد لله مرت الليلة بسلام ، أشرقت الشمس وبدأت معها الإنفجارات بشكل أكبر وأقوى ظلوا أياماِ عدة بالداخل في السكن المكون من إثنتين وعشرين غرفة ليس به أحد سواهم الأربعة،
وصلت الأنباء إلي والد أحمد ومحمود وعلى الفور قام بشحن رصيد يكفي لمكالمات دولية وأصر عليهم أن يرجعوا إلي بيتهم في أقرب وقت، كل يوم نفس الحال ولما رأى يوسف إلحاح والدهم قال لهم لابد أن تذهبوا أما أنا فلن أترك المكان حتي أجد حيلة في بيع البضاعة ورد الأموال إلي أصحابها ، غادروا بعد إلحاح بسيط وبقى هو وصديقه عبدالرحمن ،
وكأن الله أرسله أنيسا في هذه الفترة الحالكة،
غير أنه كان يفعل أمورا أقرب للجنون فتارة يخرج ليلتقط صوراً للإنفجارات وتارة أخرى يشتاق إلي خطيبته فيذهب للخارج ليحدثها حتي تتحسن الشبكة غير آبهٍ بالموت الذي يحيط بهم من كل مكان، كانت أفعاله الجنونية هذه توشك أن تطيش بعقل يوسف لكنه كان أنيسا وونسا له في هذه الويلات،
إضطر أن يمكث هو وصديقه أياماً عدة وكانت مجازفة بحياتهما غير أن كل ما يشغله أن يبيع بضاعته ويرد الحقوق لأصحابها برغم قلبه المكسور وهو يرى حلمه ومشروع عمره يتحطم أمام عينيه بعد صبر ومثابرة لمدة عامين ، الحمد لله أخيرا وجد من يشتري ولكن كان في الأمر إستغلال لظروف الحرب الدائرة في هذه المنطقة لكنه وافق على أي حال ،
بدأ يبيع وكلما حصل على مبلغ يسدد جزءاً من الديون، كان في كل مرة يبيع فيها يرى الموت بعينيه مرة تنزل عن يمينه قذيفة ومرة أخرى صاروخ ومرات طلقات طائشة في الهواء من كل جانب لكنه تحمل حتي يصل الحق لأصحابه، إنتهت المهمة بسلام وغادر المكان والدموع تنهمر من عينيه، ذهب مع صديقه عبدالرحمن لمكان آخر أقل خطورة علهم يحصلون على الأمان ويجدون عملاً، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن قامت الحرب في المكان الجديد وأصبح المكان أكثر خطورة يحفهم الموت من كل جانب وظلوا أياماً وليالي لا نوم ليلا ولا خروج نهائي من السكن ،يتناولون وجبة واحدة في منتصف النهار يتقوتون بها ، صديقه المجنون عبدالرحمن لا زال يمارس أفعاله الجنونية يخرج لتصوير الصواريخ وكأنه أصيب بأقصى حالات اللامبالاة، كان الأمر يجعلهم أحيانا يصابون بنوبات ضحك هيسترية، في هذا السكن كانت توجد غرفة مظلمة لا يسكن بها أحد كان يزورها يوسف في كل ليلة بحجة أنه سيحاول إجراء مكالمة هاتفية، لكنه في الحقيقة كان يخلو بنفسه ويبكي حتي يغمى عليه أحيانا، كلما خلا بنفسه تذكر أنه طيلة ما يقارب من ستة أشهر لم يتصل عليه أحد من أهله ولا حتي مرة واحدة ، وكان يسأل نفسه :
هل أنا عديم الفائدة لهذه الدرجة ؟
هل حياتي أو موتي سواء ؟
ما بالهم لا تحرقهم قلوبهم ويعلمون أني معرض للموت في كل لحظة،
الكثير والكثير من الاسئلة التي تسيل لها دموعه ويعلو نشيجه وتتسارع أنفاسه وكأن قلبه أوشك أن يفر من بين ضلوعه ،
ليالٍ متتابعة حتي صارت تلك الجدران أصدقاؤه يحدثهم ويفرغ ما في جعبته لهم ،
بدأت الأمور تهدأ قليلا وإستطاعوا مزاولة عملهم الذي ألهاه عما يكابده، عادت شبكات الإتصال تعمل لكنه لا يريد أن يكلم أحداً وأصبح زاهدا في أن يكلمه أحد فإذا كسر القلب صار الأمر إدّاً والخطب جدّاً، قضى أيامه في العمل وكلما تأرق مضجعه ذهب إلي غرفته المفضله يخلو بجدارنها ويحدثهم ، من كثرة بكائه في هذه الغرفة لو كانت هناك بذور لنبتت وصارت أشجارا، مكث شهوراً عدة ثم قرر العودة إلي وطنه، عاد ولم يعد قلبه كما كان، وما أظن أنه سينسى حتي أخر يوم في حياته .
سعيد صلاح محمد
جمهورية مصر العربية