lundi 25 août 2025

«حين يتريّث الزمـن»✍ الأستاذة 🏻 فاطمة لغباري

ج: 25 من رواية : «صفحـة من دفـتر قـديم»

«حين يتريّث الزمـن»
✍🏻 فاطمة لغباري

(الفـصل 2 : مـا تخفـيه الريـاح)

في تلك الليلة، تجلى المشهـد وكأنه خـرج عن المـألوف؛ القـمـر أسكـب ضوءه على الأسقـف الطينـية، والريـح حمـلت عـطر الحـنّـاء ممـزوجـا بدخـان المشاعـل. ومن دار 'لالـة تغـنجـا' تعـالت الأهازيج، وكأن الزمـن توقـف لبرهـة، ينصت لأنفـاس الأرض ويتهيـأ معهـا ليـوم استثنـائي.

وسط الصخـب، تقـدمـت العجـوز 'تغـنجـا' بخـطى وئيـدة، مستنـدة على عصاهـا، وفي عينـيهـا بريـق حكمـة السـنين. أمسكتْ بكـفي كأنهـا تنقـب في خطـوطه عن خبـايـا القــدر، ثم ربطـت حـول معصمي خيطـا قـانيـا، وأضـافـت لمسـة من الحـنّـاء هـامسـة بتـاشلحـيت :

— ”خـتـاد بركـة باش أكَكم إِحـنو زمـان، أربْـدا تقـومـوت.“
(هذه بركـة لتلين لك الأيـام ويُزهـر جمـالك.)

مع خفـوت الصخـب داخـل الدار، تلـوّنت السمــاء بأطيـاف الفجــر الأولـى؛ وعلى الوهـاد ارتفـع طبـول "تـاسكـيوين" بإيقـاع بـدئي، وفـاض وهـج الفـوانيس الطينيـة بين أيـادي النسـوة، ثم انسـدل سعـف النخـيل على أطـراف الخـيـام كستـائر من نـور.
ومن بين الجمـوع، أطلـت 'تـاوسّـا' ترفـل في عـبـاءتهـا البيضـاء المطـرزة، وخجـلهـا يتـوارى خلـف جـدائل شعـرهـا الطويـل. وإلى جـانبهـا كان 'أمـنـاي' يخطـو كفـارس أمـازيغـي في سلهـامـه النـاصع، يحـيّي الحـاضريـن بابتسـامـة وادعـة.

في خضـم تلك المشاهـد، آويـتُ إلى دفء الخـيمـة، جلسـتُ إلى جـانب حـسن أتـابع رقصـة "أحـواش" المتقـدة بأضـواء المشـاعل. مـدّ يـده نحـوي، جـاذبـا إيـاي نحـو الحلقـة. شعـرت حـينها أن الأرض كلهـا تهتـز، كأنهـا تتمـاهى معنـا في تنـاغم روحـي فـريد.

بعد انقضـاء الحفـل، اجتمـعنـا تحت عـرعـارة عـتيقـة بجـوار 'لالـة تغنجـا'. سكبـت لنـا الشاي، ثم قـالـت بلسـان أهـل سـوس :

— ”تيـري غ وكـال أد وراغ تنكـر غـووال مـاش غصـبر.
زنـود ونـا إزان كـرا غـودرار إدو يضـود يفـتيد تكَـا شجـرة إصحـان وراسـت يـاسـي الريـح.“

(الحـب في هذه الأرض لا يُسقى بالكـلام، بل بالصبـر، كشتلـة مغـروسة في صخـر الجـبل، قد تعصف بهـا الريـح، لكنهـا تعـود شجـرة شـامخـة لا تهـزهـا العواصف.)
 
تسـربت كلمـاتهـا إلى أعمـاقي كوصيـة خفـية : 
        أن الحـب يتجـذر بالصبـر والاصرار.

حين تـلاشى صدى الليـل، جمعـنـا أمتعـتنـا ووجـوهنـا مـا تـزال مشبعـة بفـرح الحفـل وحـرارة الـوداع.
عـانقـتني 'تـاوسّـا'، وهمست بلغـتهـا الأم :

– ”أج تيـري غ لقلـب نّْكْ أستـورتـاجـت أتـرحـل.“
  (دع الحـب ينبض في قلـبك، ولا تدعـيه يغـادر.)

أمـا 'أمنـاي' فكان وداعـه صـامـتـا؛ غـير أن دمـوعـه أفصحت عمـا عجـز لسـانـه عن قـولـه.

ثم أخـذت الأحـداث تنتقـل بي إلى الطريـق الساحـلي مع أول أنفـاس الفجـر. 
السمــاء ملـبّدة بسحـب رمـادية، والمنعطفـات تشـق الجبـال التي تـلاشـت تدريجـيـا في الأفـق. أسـندت رأسـي إلى الزجـاج، أراقـب الضبـاب ينقـشع رويـدا حـامـلا أصداء تلك الليلـة التي لا تـزال ترقـص في ذهـني. 
عـدتُ إلى اللحـظة الحـاضـرة حين لـوّح حسـن نحـو لافـتة تحمـل اسـم : موغـادور – 48 كلم. رمقـني بابتسامـة خـاطفـة وقـال :

— ”انظـري يـا فـاطمـة، هذا الطريـق يشبهـكِ؛ هـادئ في ظاهـره، لكـنه يخـفي بين منعطفـاتـه بدايـات لا تنتـهي...“
 
ابتسمت، وأنـا أرقـب الغـيم على الأفـق :
— ”ربمـا ... لكنني لا أخـشى التـيه. فكل منعـطف مهما بـدا غـامضا، يخـفي فـرصة لاكتشـاف الـذات.“

ثم أضفـت مبتسمـة :
–”لنمـض معـا في كل الدروب، حتى لو اكتنفـنـا الظـلام. فالحـب والأحـلام لا يكتمـلان إلا بالعــزم.“

لحـظتهـا صـدح صـوت فـيروز الشجـي من الراديـو :
"أنـا لحـبيبي وحـبيبي إلي ..."

أمـال رأسـه، وقـبّل جبـيني هـامسـا :
–”لن تفـرقنـا الطرق، فمـا بيننـا أشـد من هبـوب الريـاح و عنفـوان البحـار.“

تـدريجـيـا، تكشفـت أسـوار 'موغـادر' من خلـف الضبـاب، كقلعـة زرقـاء تستعـيد عظمـتهـا في حضـن البحـر. النـوارس تحـوم بلا كـلل، وخلـف زرقـة الأفـق المترامـية، كان المـوج يتـأهّـب لكتـابـة فـصل جـديد. 
وظل سـؤال يتردد في أعمـاقي :

– أي أسـرار تخـفيهـا الريـاح؟
ويبقـى السـؤال عـالقـا، كنـداء مـؤجـل ينتظـر من يسـبر أعمـاقـه، ليكشـفـه ويرويـه للزمـن القـادم.

يتبــع ...