وأنا أستنشق عطر العراقة في أزقة ودروب مدينتي ؛تداعبني أصالة نسيمها؛لاح لناظري طيفٌ يُطلُّ من شُرفة تاريخها ؛ بالكاد تبيّنتُ ملامحه وبالكاد تحرّرتُ من دهشتي وروعتي؛ كان طيفَ أحد لُمّع الفكر الإنساني وأحد أشهر زُوّار مدينتي- القصرالكبير"شمال المغرب "ــ في عهد الدولة المرينية- ابو عبد الرحمان بن خلدون فيلسوف التاريخ و مُؤسّس علم الاجتماع .
عقد الوقارُ لساني وأنا أرى الطّيفَ يخطو في الأزقّة الضيّقة...بخطوات تسبق ظلَّها، اقتفيت أثره؛استجمعت أدبي قبل شجاعتي؛سألته" إلى أين يا أبا عبد الرحمان؟ "
بكل تواضُع أجابني :" إلى أحياء المدينة استطلع أحوالها؛"رجوته الرّفقة فاحتضن أدبُه وتواضعهُ رجائي .
خيرُ الكلام الصّمت؛ كان هو عُنوان بداية الجولة، تأمّلُه غمر كيانَه وتأمّلُ تأمّلِه منعني من الكلام ؛فأنا اعرف طبع أبي عبد الرحمان، هو يستنطقُ قبل أن ينطق ويحلّل قبل أن يُعلّل .
وسط المدينة حظيت بأولى مُلاحظات العالم الجليل . .
" لقد سرق اللّصوُص والمتطفّلُون الأمان والوقار من حياتكم ومن عتبات منازلكم." أومأتُ بالإيجاب؛تجرّأتُ وسألته: كيف علمت ذلك سيدي ؟
ردّ علي قائلا :" من الأقفاص والسيّاجات الحديدية التي تُطوّقُ بيوتكم وعتباتكم؛ما رُكّبَت إلا لدفع العُدوان والخراب وجلب الأمان؛هذا دليل قاطع -كما كتبتُ في المقدمة -على أن المدينة ليست لديها رعاية كافية."
بلهفة الحصول على جواب سريع خاطبني طيفُ أبي عبد الرحمان:
"ما خبرُ هده الحاويات الخضراء المصطَفّة في بعض شوارعكم ؟بم هي مملوءة ؟
أحسستُ بمهانة إجابة عن سؤال تفصلُني عن شخصية سائلِه ستةُّ قرون،
مع ذلك استمرأتُ سؤالَه كما يستمِرئ المُحبُّ غنجَ محبُوبه . .
بانكسار أجبتُ :"هي حاويات لونُها الأخضُر براءٌ من مُحتواها .هي حاويات قُمامة سيّدي؛ تُؤثّثُ بعضَ شوارعنا؛ فقد انتظرنا كثيرا أن تُزهر أرضُنا الخِصبة وردا وياسمينا "
"لاشكّ أن مرض الرّبو مُنتشرٌ بين سُكاّن المدينة " أثارتني ملاحظتُه قلت: "صدقت سيّدي"
استطرد قائلا بحسرة:" لم لم تستفيدُوا من دُروس مُقدّمتي؟ أما أخبرتُكم عن قيمة الجمال وجودة الهواء وتأثيِرهما على ألوان الناس وأحوالهم الصّحية العضوية والنّفسية؟ لم الحالُ معكوسٌ هنا في المدينة؟ بدل أن يُعانقَ جمالُ الزّهر أشجارَكم تُعانقُ بعضُها سلاسلَ حاويات القُمامة
استبدّ بي خجلٌ ثم بعده وجعٌ.تدخّلتُ قائلة:" يا أبا عبد الرّحمان نحن رجونا ذلك في الماضي ونرجوه الآن في الحاضر، فإن خاب في حاضرِنا رجاؤُنا لن يبقى لنا إلا أن نَستعيرَ من توأم مدينتنا - مدينة "لاغوس" بالبرتغال- بعض لمسات الجمال، فهي تعرفنا وتعرف أجدادنا عسى أريجها المشحون بشذى الورد يُعانق شجرَنا الحزينَ وعسى نافوراتها تروي جفافَ عُيوننا "
.
"لا لا لن أكونَ مُخطئا، أكيد أنّ المدينةَ يختالُها المعتُوهون والمُشرَّدُون." فاجأني أبو عبد الرحمان بملاحظته . .
باندفاع أجبتُ :" آه يا سيدي لو ترى جحافلَ المعتُوهين المُهجّرين إلى مدينتي "
سألني رفيقي: هي الحربُ إذن قائمة ؟
أجبتُ:" هي حربٌ باردٌ بين مدن مُدلّلة يُرجى جمالُها وبين مُدن مُهمشَّة يُكرّسُ سفولُها. لكن أخبِرنِي:" من مَدّك بهاته المعلومة ؟" ضحك الطّيفُ ضحكة ماكرة وأجابني: " من كرم الحاويات المبثُوث في الأزّقة "
ونحن ندلفُ إلى الأحياء العتيقة تراءت لرفيقي" الطّيف" بعض الدُّور الآيلة للسُقوط ، للتّو سألني :
"أما تخشون سقوطَها على رُؤوس قاطنيها ؟نبّهتُكم إلى خُطورة ذلك في كتابي "العِبر"
قلت مُّوضّحة:" يا سيدي أولئك الناس معيشتُهم آيلة للسّقوط قبل سُكناهم، ينتشر على وجهها ظلُّ الموت؛ أغلبُهم أدمن الوجع ، أغلبُهم ينطقُ حالُ لسانه بما نطق به من قبل الشّاعر "محمود درويش "
أيها الموت انتظرني "
عقّبَ عليّ أبو عبد الرحمان:" ذلك لان الصّنائعَ تغيبُ عنكم ؛هي كلّما ارتقت راجت التّجارةُ وزاد الرّخاءُ، وكلّما ازدهرَ العمران نمتِ الحركةُ الاقتصادية ".
بنبرة مُودّع خاطبني أبُو عبد الرحمان :
"لو ترأفُون بهذه الحاضرة كما رأفَ تاريخُها المجيدُ بكم وبأمّتِكم، لو تلبسُونها خِلعة لُطفكِم ،لأوقفتُم أنينهَا و لأسمعتكُم شُكرَها ."
لمع بريقُ الزّهو في عينيّ وتقاسمَني الفخرُ بماض مجيد والأسفُ على حاضر حزين ؛ ومابين ذا وذاك بعُدت المسافةُ بيني وبين طيف" ابن خلدون "؛ احتضنَتهُ عراقةُ الدُّروب فغيّبَتهُ تدريجيا عن ناظري .
خَشوعا أفَل و خشوعا أطلَّ كطيف نبِيّ..... مع الاعتذار للمبدع الشّاعر عبد الرفيع الجواهري .
بقلم: حنان قدامة