في قصيدتي “زَقزَقَةِ القُرُودِ”، أنغمس في بحر من الأسئلة الوجودية والإنسانية التي تُعبّر عن تداخلات الفقد، والتشوش الاجتماعي، والانكسار الوطني.
إنها صورة مكثفة لعالم يتناثر فيه الإنسان بين الذاكرة والواقع، وبين المظالم والتطلعات.
تعكس القصيدة أزمة الوعي التي يعانيها الجيل المعاصر في مواجهة التحديات التي تقيد حريته، وتجذبه إلى دائرة الحيرة والتساؤلات اللامتناهية.
زقزقةُ القرود هي الصدى الصاخب لزمنٍ ضائع، نسمعه في داخلنا قبل أن نسمعه من حولنا.
⸻
زَقزَقَةِ القُرُودِ
قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي
دريسدن – 22.07.2024 | نُقّحت 10.09.2025
1
ننتخب من نكره، ونعلق الصور في الأعراس،
ونسمع من لا نطيق،
نستنجد بالمغفرة من أجل النفاق،
وكأننا في تابوتٍ تحمله الأفاعي على أشواك الطريق.
نُخرسُ أفواهنا خشية الألم،
ونُواري أصواتنا كي لا يُفضح النطق.
ما أكثر حاجتنا إلى ملك الهفوات،
لنتوسل إليه بصمت ونقول:
انقذنا… هل تولد اليقظة بعد الموت؟
نشتاق لليقظة،
لنقول ما يفتك بنا موجود في قاع الهاوية،
من يخرجه لنرى حجم المعصية.
2
نقف كذئبٍ ملهوف،
فقد شهيته أمام فريسةٍ ضخمة،
ونحن فتاتٌ مهدور على موائد الخراب.
نحن الذئاب ونحن الفريسة،
والأنياب مستعارة، والألم لنا.
لقد توغلنا في الابتعاد عن الجسد،
وقسنا المسافة بغفلة الأجساد،
ونسينا أن للروح ميزانها الخفي،
فحذرتنا من نفاق اليقظة،
وشاخت قبل أن نسمعها.
وقفنا مشدودين مثل أوتادٍ لحمل الهواء،
وصرنا نلوذ بالأمل كألعابٍ تافهة،
مخنوقة في صدورٍ مغلقة بأقفال اليأس.
صارت الحياة خطابًا مبهمًا،
تحرسه القرصنة من كل الجهات.
لم نعد نعلم كيف نعد الهزائم،
وحتى لو اشتقنا للسكينة، سنكون فريسة.
جاء السيلُ بلا مطرٍ،
وأغرقنا عند حوافِّ اليابسة.
3
كم مرة نستنسخ من الماضي مخالب السنين،
ونحتفل وكأننا كنّا على يقين؟
أحبّاؤنا هَرمٌ بلا قمّة،
وجمال الكون لا يأتي من عَجن الطحين،
ولا من أرغفة الخبز في أفواه المحرومين،
ولا من رفع الأعلام لنتذكّر أنّنا في وطن،
نراه في لهفةٍ إلى لقمة.
إنه الإنسان: إن نزع منه الوطن، يصبح
جرحًا لا تُدمله السنين ولا تنقذه العفة.
أريد أرجوحتي على غصن شجرة الزيتون،
وأريد تفاحتي تحت الوسادة،
لأحلم كيف تكون الرائحة الطيبة ملاذ الحنين،
وفي الخيمة يتعفن التفاح، وتصير الرائحة خمر الشياطين.
4
لقد كان أبي، الذي جَرَّه التشريدُ إلى بحر المظالم،
طوته الخيام، ولفَّته أشرعةٌ مثقوبة،
تُخرج أنفاسه المحروقة من أعماق الحيرة.
وزّعوا السماء، وتركوه في منقار صقرٍ
فريسةً وحيدة.
فمكث سبعين سنة، وقال: ألم يشعر بنا أحد؟
لن تتبدّل الدول بدول يا ولدي،
ولن يتغيّر المهد.
خرجنا من غرفةٍ منكوبة،
وقالوا: سنطردهم،
نحن أقوى من كل الجنود في رقعة الشطرنج.
دعك من الجنود، فالرقعة وجود.
خرج علينا المتخلف والطائفي والخائن،
كلهم يرفعون البيارق تحت سماءٍ مسروقة،
بكروشٍ مدلاة كنعوشٍ طائرة،
تغصّ بالغيرة على صمتٍ مترف،
ونفاق يقتل اليرقة،
ورقعة الشطرنج فقدت جنودها ومربعاتها،
وهربت الخطوط لتخيط الأفواه.
5
يا ولدي… نحن بحاجةٍ إلى بيتٍ
يحميك، ويُريك ضياعَ البيت والبستان،
هنا، بين الحيطان الباردة والأركان الخاوية،
حيث الصمتُ والفوضى،
تُوأد الثورةُ تحت حجارة المواقد،
ويصير الخفاءُ أبشع إن كان الوطنَ غطاء.
كيف أمنحك عقلي لتحملني مع التراب،
بيقظة العارفين؟
وأنا أرعى الشروق ولم أَرَ شمسًا،
وأتغنى بالندى والفم يشققه الجفاف،
أترك لحفي فكل دفئه صدى،
ولليل تركني بلا قطاف.
تعالوا لنتحرّر جميعًا،
هذا قابعٌ على الصفيح، وذاك يبيت في منخل.
من يُنصفنا في هذا الكون،
حين يكرهنا نصفه، ويقتلنا نصفه،
والكل متفقٌ على اسم الشريد؟
لقد دَوَّت زقزقةُ القرود، وهي تحكم بلا أحكام،
رمز الفوضى في حياة البشر،
مثل هجوم السيل على المنحدر.
اختفى حلمُك بين طيّات السنين.
نحن ضعفاءُ منذ نزلت المحبّةُ على طرفٍ واحدٍ من هذه الأرض،
فإلى أين نمضي بخطواتٍ يحاصرها الحذاء؟
ونسلك تحت غطاءٍ سترفعه وحدك،
حتى لو سُمعت طقطقةُ عظامك.
قدرك أن تحمل معك حياةً تكاد تذوب
بين شذوذ اليقين.
6
قبلتُ أن أستولي على المأساة خلفك،
فلا خيارَ لِمَن وُلِدَ بقسوةِ الماضي وتكسُّرِ الأخلاق.
جريحٌ… لا يداويني سوى خريرُ الماء
في السحبِ العطشى للكرامة،
ولا يواسيني سوى أن أواصل وجودي،
في وطنٍ لم يكن إلّا أكثرَ وأكبرَ من واحد.
الوطن كلمة الحياة في صدر الكون،
فلماذا تسألني إن صرت في زمن القرود؟
قصة من قصص يذكرها الحزين على مآسي المقاومة؟
يتسلقونني أينما ذهبت،
يسألون إن كنت حيًا في حياتي.
نعم، لم تترك لي سوى ما حملت،
ما أجمل وما أصعب ما حملت.
الوطن يتجلى قداسةً في كل صلاة،
والغافلون طيورٌ سوداء،
تحطّ في الهزيمة، وتحفر مأساة،
وحين نلتفت… نعرف.
لن ينجُ أحد،
فقرابين السكوت قد قتلتنا،
والدعاء خرج… ولن يعود.
نوزع الحلوى على حقول الجفاف،
ونحصد بشغف ثمرا مر…
نوزعه وكأننا نجيد الصبر والعناد.
نجحنا في بري أقلام الرصاص،
وأضعنا الكلام والورق.
وحين استعادت القرود الثقة فيما بينها،
كنا منشغلين بعقد اجتماع حول الفرقة.
نجحت القرود،
ورفعت جلستها قبل أن نبدأ.
طاهر عرابي – دريسدن