تطلّعتْ عيناهُ الصغيرتانِ إلى وجهِ أُمِّهِ، فرأى ابتسامةً رقيقةً تزينها دمعةٌ شفافةٌ. احتضنتهُ بِقوةٍ، وغمرتهُ رائحةُ الخبزِ الطازجِ. وضعَتْ في كفِّهِ قطعةَ حلوى، وقالَتْ بِصوتٍ متهدجٍ: "عُدْ إليَّ سالمًا يا بني". ابتسمَ وأومأَ برأسهِ، ثمَّ ركضَ عبرَ الحارةِ الضيقةِ.
وصلَ إلى الساحةِ، حيثُ كانَ الأطفالُ يلعبونَ. انضمَّ إليهم، وقذفَ حجرًا عاليًا في الهواءِ. سمعَ صوتَ هديرٍ بعيدٍ يتزايدُ. التفتَ الجميعُ، ورأوا آلةً ضخمةً من الحديدِ تُقْبِلُ. اختبأَ الأطفالُ خلفَ الجدرانِ، لكنَّهُ ظلَّ في مكانهِ.
رفعَ يدهُ الصغيرةَ، وأمسكَ بحجرٍ آخرَ. صرخَ صديقُهُ: "أُركضْ يا أحمد!". لكنَّهُ لمْ يُجبْ. تقدَّمَ بضعَ خطواتٍ، ورأى وجهَ السائقِ خلفَ الزجاجِ. كانتْ عيناهُ باردتينِ.
ألقى الحجرَ. اصطدمَ بالزجاجِ الأماميِّ. سمعَ صوتَ طقطقةٍ خافتةٍ. توقفتْ الآلةُ. فتحَ بابُها، ونزلَ رجلٌ يرتدي زيًا عسكريًا. نظرَ إليهِ بِغضبٍ.
تقدَّمَ الرجلُ نحوهُ، وأشارَ إليهِ بيدهِ. لمْ يتحركْ. ظلَّ يبتسمُ، ورفعَ يدهُ الأخرى. فجأةً، سمعَ صوتَ طلقةٍ. سقطَ الحجرُ من يدهِ. اتسعتْ عيناهُ، وسالتْ من فمهِ بقعةٌ حمراءُ.
سقطَ على الأرضِ. تجمّعَ الناسُ من حولهِ. وضعَ أحدهم يدهُ على صدرهِ، وحاولَ أنْ يوقظَهُ. لكنَّ عينيهِ ظلَّتا مفتوحتينِ، تحدقانِ في السماءِ. كانَ وجهُهُ لا يزالُ يبتسمُ.
حملَهُ رجلٌ ضخمُ الجثةِ، وغطى وجهَهُ بقطعةِ قماشٍ بيضاءَ. بكتْ أُمُّهُ، وصرختْ: "أحمد...". ثمَّ صمتَتْ. لمْ يسمعْ أحدٌ صوتَها بعدَ ذلكَ.
حسين بن قرين درمشاكي
كاتب وقاص ليبي