الصَمْتُ الأَخِيْر
تَوْطِئَة :
قَبلَ مَا يُقَارِبُ الشَهْرَيْنَ يَقِلُ أَو يَزِيْد ، نُشِرَ مَا نَصُّهُ : ( غَمَسْتُ رِيْشَتِي بِِدَوَاةِ أَحْمَاضِيَ الأَمِيْنِيَّةِ و كَتَبْت : غَيْرَ عَيْنَيْكِ لَن أَكْتُبَ إِلَّا الصَمْتَ الأَخِيْر . ) ، و الآنَ صَارَ لِزَامَاً تَصوِيْبَ مَا قِيْلَ سَالِفَاً بِطَرِيْقَةٍ مُغَايِرَةٍ هِيَ الأَجْمَل : ( بَعْدَ كِتََابَةَ الصَمْتِ الأَخِيْر ، لِعَيْنَيْكِ مِن حَرفِيَ الأَكْثَرُ مِنَ الكَثِيْر ، عَلَّهُ يُصْبِحُ يَكْفِي ) .
أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَ كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَن يُغْلِقَ أَجْفَانَهُ ، عَلَى خِضَمِّ أَفْكَارٍ تَتَلَاطَمُ دَاخِلَ رَأسِهِ المُسَيْطِرِ ، يَجْمَعُ مَا كَانَ و مَا سَيَكُونَ إِعْصَارَاً هَائِجَاً بِأَمْوَاجٍ تَارِيْخِيَّةٍ فِي الغَالِب ، تَعْصِفُ بِجِهَازِهِ العَصَبِيِّ فِي اللَحْظَةِ التِي كَانَ يَعْصِرِ رَأَسَهُ ، كَي يَخْبُو الصُدَاعَ النَاجِمَ عَن صُرَاخِ ( الوَلِيْدِ الثَانِي بنُ يَزِيْد ) ، لَعَلَ الصُدَاعَ يَخْبُو و يَذْهَبَ الوَلِيْدَ لِتَصْرِيْفِ بَعْضِ شُؤُونِ الأُمَّة ، كُلُّ مَا يَبْغِيْهِ أَن تَخْبُو نَوبَةُ الصُدَاعِ ، كَي يَبْزُغَ فَجْرَ البَحْرِ البَسِيْطِ أَو المُتَدَارَك فَلَيْسُ هُنَالِكَ ثَمَّةَ فَرقٌ ، حَتَى لَو انْتَصَبَ الكَامِلُ فَجْأَةً فِي قِمَّةِ هَذَا الضَيَاع ، قَالَ : هَل أَنَّ ( الخَلِيْلَ ) هُو مَنْ وَضَعَ قَوَانِيْنَهُ لِلشِعْرِ الرَعَوِي ، ثُمَ غَرِقَ فِي تَصْرِيْفِ ( تَكَوْرُنْ ) إِن كَانَ جَذْرُهُ رُبَاعِيَّاً ، قَبْلَ حُدُوثِ أَيَّةِ طَفْرَةٍ يَكُوْنُ مُضَارِعُنَا جَمِيْعَاً ( تَكَوْرَنَ - المُكَوْرَنُ الغَافِلُ مِنَ المُكَوْرِنُ المَجْهُول ) ،
اسْتَمْسَكَ بِالقَلِيْلِ الذِي مَا زَالَ يُخْبِرُهُ بِأَن هَذا كُلُّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الطُوفَان ، و هُوَ يَلْتَحِفَ شَمْسَ ذَلِكَ الشِتَاءَ بِصَبْرٍ و قُوَةٍ ، كَأَنَّهُ ( سِيْزِيْفَ ) يَعِيْشُ عَذَابَهُ الأَبَدِي ، عِنْدَهَا رَأَى شَرِيْطَ مَا حَدَثَ بِعَيْنَيْهِ المُغْمَضَتِيْنِ ، يَنْتَقِلُ مِن ( فِرْجِيْليُوس ) إِلى ( أَبي العَلاءِ المَعَري ) ، ثُمَّ إِلى ( دَانْتِي ) و مِن ثَمَّ إِلَيْهِ هُنَاك ، عَلَّهُ يَسْتَطِيْعُ فَتْحَ تَارِيْخِ الحَضَارَات لِتَنْهَمِرَ دَمْغَةً عَلَى الذِي سُأِلَ عَنهُ - مَنْ خَرَجَ لِتَوِهِ مِنْ غَفْلَةِ الوَقْتِ يَعْتَمِرُ تَاجَهُ المَلَكِي - ، قَائِلَاً : مَن ذَاكَ الذِي يَقِفُ عَلَى نَاصِيَّةِ كَوَابِيْسِنَا !؟ ، أَجَابَ صَاحِبُ فُضُولٍ وِرَاثِيٍّ : هَذَا قَاتِلُ الرَبِيْعِ أَخْرَجُوهُ مِنَ الرِوَايَّةِ قَبْلَ الطُوفَان ، لَكِن لِمَا فَعَلَ مَا تَقُولُ ؛ حُجَتُهُ أَنَّ وَرْدَةَ أَدْمَعَت عَلَى يَدِهِ فَأَوجَعَتِ الوَرِيْد .
هُنَا عَلَا الضَيَاعُ قَلِيْلَاً كَأَنَّهُ يِنَاغِمُ الشَمْسَ فِي ارْتِفَاعِهَا عِنْدَمَا كَانَت تَزْحَلُ مُبْتَعِدَةً عَنِ الضُحَى ، و قَد أَخَذَ الزَمَن خُطْوَةً احْتِرَازِيَّةً قَبْلَ أَن يَتَقَدَمَ أَكثَرَ مِن خُطْوَتِيْن ، هَمْهَمَ بِدُوْنِ صَوْتٍ و مَضَى يَبْحَثُ عَنْ حَبْلِ فِكْرَةٍ تَجُرُهُ نَحْوَ الأَمَلِ فِي المِضِيِّ قُدُمَاً ، إِلى مَا ظَنَّهُ المُسْتَحِيْل ، مُحَالٌ عَلَيْهِ القَبْضَ عَلَى قَلَمِهِ ، كَمَا أَنَّهُ سَأَلَ شَوْقَاً لِلكِتَابَةِ عَلَى الوَرَق ، فَوَجَدَ نِصْفَهُ قَد بَلَلتْهُ دُمُوعُ الخَطِيْئَةِ و النِصْفُ الآخَرَ احْتَرَقَ فِي هِيْليُوم نِيْفَادَا .
و هُوَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ نَادَاهُ أَحَدُ العَابِِرِيْنَ إِلى مَجْهُولٍ ، قَائِلَاً : مَتَى سَتَكْتُبُ رِوَايَةَ ( طَرِيْقِ الجَحِيْمِ ) ، أَجَابَهُ قَبْلَ أَن يَسْأَلَهُ مَدْهُوشَاً عَمَّن يَكُونُ ؛ بَعْدَ أَن أُنْهِي رِوَايَةَ ( السَطْر الأَخِيْر ) ، ابْتَسَمَ يَقُولُ : أَعْرِفُكَ فِي حُلُمٍ قَدِيْم ، وَقْتَ كُنْتَ فِي طَرِيْقِ مُغَادَرَةِ دَرْبِ التَبَانَة ، بِمِعْطَفِكَ الرَثُ و عُلْبَةُ السَجَائِر التِي مَا انْفَكَت تُأَنِبُكَ عَلَى إِبَادَة ِ سُكَانِ الأَرضِ الجَدِيْدَة ، و إِن إِلتَقَيْنَا ثَانِيَّة أَنْصَحُكَ بِأَن لا تَعْرِفَنِي و تابَعَ و هُوَ يَضْحَكُ سَاخِرَاً : وَقْتَذَاكَ كَانَ ( ستِفِن هُوكِينغ ) قَد انْسَحَبَ مِنَ الرِحْلَةِ عَلَى بُعْدِ إِشَارَةٍ بَيْنَ خَلِيَتَيْنِ عَصَبِيَّتَيْن ، لَمَّا صَرَخْتَ بِسِيْجَارَتِكَ المُشتَعِلَةِ مِن جَاذِبِيَّةِ الثُقْبِ الأَسْوَدِ الذِي يَدُورُ مُتَسَارِعَاً حَوْلَ الغُدَةِ الصَنَوبَرِيَّة ، و بِهِسْتِيْرِيَّةٍ قُلْتَ َ : كُنْتُ هُنَاكَ قَبْلَهُم بِآلَافِ السِنِيْنِ و لَم أَفْعَلُ هَذَا ، سَلِيْهِم لَقَد وَجَدُوا رُفَاتِي هُنَاكَ بِالقُرْبِ مِن نَقْشِ ( بَارِيْبَا ) .
اسْتَبْشَرَ خَيْرَاً عِنْدَمَا نَادَتْهُ نَوبَةُ سِكُوْنٍ مُفَاجِئَة ، سَائِلَةً إِيَّاه : هَل حَضَرَ يَهُوذَا مَائِدَةَ العَشَاءِ الأَخْيْرِ قَبْلَ سُوَيْعَاتٍ مِن خِيَانَتِهِ لِنَفْسِه ، و هَل كَانَ ( يُوليُوس قَيْصَر ) مُصَابَاً بِالتِهَابِِ الكَبِِدِ الوَبَائِي لَمَّا تَزَوَجَ مِن ( كِليُوبِترَا ) أَو أَنَّ التَارِيْخَ رُبَّمَا هُوَ لَم يَكُن كَذَلِك .
أَصَابَتْهُ الدَهْشَةَ التَى فَقَدَ مُنْذُ الكَثِيْرِ مِنَ السِنِيْن ، عِنْدَمَا فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَجْأَةً و رَاحَ يَتَمَشَى فِي المَمَرِ الذِي يَنْتَهِي حَيْثُ يُفَاجِئُهُ التَعَبُ ثَانِيَةً ، لِيُجْبِرَهُ الرُجُوعَ إِلَى مِقْعَدِهِ الصَامِتِ القَابِعِ فِي ثَنَايَا رُوحِهِ المُنْهَكَة ، و المُتَعَطِشَة لِفَهْمِ مَا يَجْرِي هُنَاكَ فِي عَالَمِهِ الدَاخِلِيِّ ، يَشْعُرُهُ شَاخَ بَاكِرَاً قَبْلَ شُرُوْقٍ مُرَاهِقٍ لِشَمْسِ أَرْبِعَاءَ أَيُوبَ ، بَعْدَ أَن جَفَت كُلَّ يَنَابِيْعِ الرُوحِ و سَنَابِلِهَا ، و خَارِجَاً العَالَمُ الذِي يَتَمَسْرَحُ بِِالفَوضَى السَاخِرَةِ دُوْنَ خَشَبَةٍ مُدَوْكَرَةٍ و لَا شُخُوصٍ و الكَثِيْرُ مِنَ المَشَاهِدِيْنَ المُرْغَمِيْنَ عَلَى شَغَفِ المُتَابَعَةِ والمُشَارَكَةِ كَأَبْطَالٍ و مُسْتَشْرِفَونُ تَفَاصِيْل الغَدِ بِحَمَاسِ المُتَيَقِنِ .
و مَا كَانَت إِلَّا مُدَةً لَيْسَت إِلّا بِالطَويْلَةٍ جِدَاً ، و كَمَا لَم يَتَوَقَعُ أَبَدَاً ، أَنْهَكَهُ التَعَبُ بَعْدَ أَقَلِ مِن خُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الارْتِبَاك ، فَعَادَ يَرْتَمِي فِي أَحْضَانِ سَرِيْرِ الصُدَاعِ فِي مِقْعَدِ صَمْتِهِ الذِي يَشُوبُهُ قَلِيْلٌ مِن وَعْي ، قَطْعَاً لَم يُخْبِر أَحَدَاً بِمَا دَارَ فِي خَلَدِهِ ، حَيْثُ لَم يَبْنِي جُمْلَةً تُقَالُ ، فَأَوْمَأَ بِجَفْنَيْهِ الرَاعِشَتَيْنِ لِأَيِّ شَيءٍ ؛ و مَا مِن
شَيءٍ ، بِأَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى الحَدِيْثِ عَن أَيِّ شَيء ، و غَطَّ ثَانِيَةً و لَكِن فِي صَمْتٍ أَخِيْر .
سامي يعقوب .