mardi 31 août 2021

هذا الرجل أحبه،  
 قصة في حلقات
كنت حينها طالباً في مدريد في نهايات حكم الجنرال فرانكو، تعودت حينها ان  أستخدم المترو في تنقلاتي ضمن المدينة.
 ذلك المساء، أردت الحصول على بطاقة ركوب في المترو، وقفت في الرتل، كانت قبلي فتاة يبدو إنها فقدت حقيبتها أو ما شابه، كانت تترجى بائعة التذاكر أن تقرضها تذكرت ركوب، وقالت: هذه ساعتي ضعيها معك حتى اذهب إلى المنزل، وأعود لك بالنقود.
رفضت بائعة التذاكر القبول، وقالت لا تسمح لنا القوانين بذلك...اخذت الفتاة  تترجى الموظفة، لكنني تدخلت بالحال، وقدمت نقوداً ثمن تذكرتين، وقلت واحدة لهذه الشابة، والثانية لي.
تشكرتني الصبية جداً بصدق وخجل. 
 صعدنا سوية إلى المترو، وجلسنا بجانب بعضنا ودارت أحاديث مختلفة بيننا، عرفت منها إنها طالبة في كلية الفنون الجميلة في سنتها الأخيرة. وأخبرتها بأنني تخرجت هذه السنة  في معهد الموسيقا...
 لا أخفاكم أصدقائي، كنت أمتع نظري في وجهها رائع الجمال، وعينيها الخضراوين الساحرتين. وسمار بشرتها بلون حنطة بلدي سورية... كما لاحظت بانها هي أيضاً كانت تتأملني بشكل ملفت... مما أثار تعجبي وتساؤلي.
وصلت محطتي، وقفت أهم بالخروج، بادرتني بالكلام وقالت:  أرجوك أخبرني كيف أعيد لك النقود؟ 
ابتسمت وقلت لها: الأمر لا يستحق، وغادرت المترو، وبعدها تناسيت الأمر ...لكن جمال وجهها ولون عينيها أنطبع في ذاكرتي رمزاً للجمال الذي رسمه ربنا  بالوانه الساحرة...
 أنا في الحقيقة لمت نفسي كيف لم أقبل أن نتلاقى بحة أن تعيد لي نقودي، وقلت بنفسي كانت  خطيئة لا تغتفر...
في أيام العطل، كنت أحيانا أذهب إلى دور الأوبرا أو صالات  السينما، أو أزور معارض الرسم التي أحبها، تلك المعارض التي تعرض لوحات كلاسيكية، وأرفض  المعارض التي تعرض لوحات الفن الذي يسمونه حديثاً، وهو لا يمت للفن بصلة، لوحات لا أحبها ولا أستسيغها،  وخاصة  تلك اللوحات التي يرسمونها بقذف الألوان على اللوحة  قذفاً عشوائيا بالمكنسة، أو بالفراشي  أو بأي طريقة كانت،   ويسمونها  حالة انفعال ووحي تأتي إلى الرسام. ويقولون تلك هي لحظات الإبداع والعبقرية... ويطلبون من مشاهدي تلك اللوحات ، التحليق في الخيال والتصور. وايجاد الموضوع الذي يحضر ببال المشاهد...
تلك الرسومات أنا اسميها لوحات جنون الفنون، لا أكثر، وليس لها علاقة بالرسم... 
ذات يوم، كنت ماراً بالصدفة في شارع أنطونيو العريق المعروف في مدريد،  شاهدت بالصدفة من خارج زجاج  واجهة معرض، لوحات كلاسيكية واقعية من النوع التي أحبها. دخلت، تفاجأت  بمجموعة  من الموجودين الواقفين  بقرب المدخل، ينظرون لي، يبتسمون ابتسامات عريضة ويصفقون، أدهشني الأمر، وتظاهرت بعدم الاكتراث، وتابعت سيري إلى الداخل، متظاهراً بالنظر إلى اللوحات، لكن الذي حدث وزادني استغراباً ودهشة، عدوى التصفيق انتقلت إلى كل الموجودين في الصالة، يصفقون وينظرون إليّ، قلت في صمتي عساك تخرج بهدوء كما دخلت في هدوء.أكيد هؤلاء الناس ينتظرون شخصية ما تشبهنني، وظنوا بأنني هو ذاك الإنسان، وهممت بالخروج فعلاً...
لكن صوت نسائي كان ينادي باتجاهي يا سيد، يا سيد...
استدرت نحو الصوت، كان النداء لي فعلاً، تأملتها باستغراب وتذكرتها هي فتاة المترو التي دفعت لها ثمن تذكرة الركوب...هذا هو وجهها وهاتان هما عيناها اللتان أحفظهما جيداً...
رحبت بي ترحيباً شديداً، وقبلتني  وقالت لي أهلا بك في معرضي الأول، وقالت تعال وسحبتني من يدي، إلى عمق المعرض، كان التصفيق يزداد شدة، وكان استغرابي يتصاعد من هذا الموقف الغريب...
 لكن عندما قالت لي أنظر، وأشارت إلى اللوحة الكبيرة، في صدر المعرض وجدت صورتي في لوحة الرسم، وشاهدت فتاة المترو هي ذاتها التي  تقف بجانبي،  وكم أدهشني  روعة الرسم، وصورتي التي تشبهنني تماماً،  وصورتها هي التي تقف بجانبي الآن، بدقة عين الكاميرا ... في الواقع أنا ذهلت...كيف رسمتني هذه الفتاة من الذاكرة. 
وأذهلني أكثر اسم اللوحة الذي فسر معنى التصفيق في الصالة: كان مكتوبا فوق التوقيع هذا الرجل أحبه؟
نظرت إلى اللوحة، وإلى الكلمات واشرت بأصبعي مستغربا بمعنى هل هذه الكلمات لي فعلاً؟ 
حينها هي ابتسمت  وقالت أنت هو الذي ابحث عنه...
ثم قالت: كنت فاقدة الأمل، أن أجدك في مكان ما، لقد بحثت عنك في شوارع المدينة الكبيرة، وفي  كل مترو،  وفي حديقة الروتيرو لأنك قلت لي بأنك  تحبها  وتذهب اليها، حتى إنني  كنت أحدق النظر في وجوه المارة في شوارع مدريد، كنت أتأمل جميع الوجوه ربما أصادفك، عل وعسى،  لكن عبثاً رأيتك.
عندما رايتك في المترو، وجهك أعجبني لأنني كنت ابحث عن وجه ارسمه  لمشروع تخرجي، واصريت بل تمنيت  أن تقبل أن أعيد لك نقودك  حتى أصارحك بطلبي.
أنا كنت صامتا ومستغربا وسعيدا جداً لكن لا أعرف ماذا أقول. لكن كان لا بد من البوح بأي كلام، فقلت في الحقيقة كنت أتأملك في المترو، وراعني جمالك، ولون عينيك وقلت حينها سبحان الذي خلقك أنت أيتها الفاتنة الساحرة، انت اجمل من جميع اللواتي اعرفهن... على فكرة أنا لم اتشرف بمعرفة اسمك.
قالت أنا اسمي مارينا ريال من مدريد
قلت وأنا اسمي سمير عبود من دمشق
أحدهم كان يقف في جوارنا وينصت إلى حوارنا، وعرف من لغتي بأنني أجنبي، جاء وسأل بلهجة استخفاف من أين أنت يا شب.
قلت من سورية، من دمشق.
ضحك وقال بسخرية واضحة، أنت عربي إذن...
ونظر إلى ماريا وقال: هل هذا الذي تبحثين عنه مجرد عربي إرهابي...ونحن هنا لا تبالين بنا. 
قالت مارينا: أعتقد بأنك تطاولت أكثر من حجمك يا خوان، أنسيت بأن أجدادنا هم عرب، ونحن  من أحفادهم...
أخذت مارينا مكبر الصوت وقالت متوترة: 
اشكركم جميعا على الحضور، وأتمنى أن نلتقي في معارض قادمة. 
لكن الآن سنوزع عليكم بطاقات دعوة الى عيد ميلادي في الأسبوع المقبل.
بدأت مارينا تتلو الأسماء بمكبر الصوت والنادل يوصل البطاقات إلى أصحابها، لكن عندما وجدت بطاقة ذاك الانسان خوان، الذي اتهم السوريين بالإرهاب. مزقت بطاقته وقالت له أنت غير مرحب بك، غير مدعو إلى عيد ميلادي.

كاتب القصة: عبده داود
سورية 
إلى اللقاء في الحلقة التالية رقم 2

أبواب  ببلادي مقفلةُ أبواب داري وأراها في زمن الرصاص دونما أبوابْ ببلادي تغيّرت  كلّ الأشياء حتى في مذاق الأطعمةِ وفي الشرابْ مأسور"  ف...