الجريدة
كان الزحام شـديداً .. اليوم هام جـداً في حيـاتي .. سوف تعلن نتيجة المسابقة التي تقدمت إليها .. استيقظت مبـكراً.. صليت فريضة الصبح لأول مرة منذ عام .. ارتديت ما تبقى من ملابسي أيام الدراسـة ... عنـدما وصلت إلى بائع الصحف .. رأيت هذا المشهد ... انتـظر بعيداً ... لماذا هذا الزحـام العجيب ؟! وتساءلت أهؤلاء ينتظرون مثلي أخبـار الوظيفة ؟ ! شـباب , رجـال , كهول , جـالت برأسي ذكريات اللحظات الرهيبة قبل الجلوس أمام مكتب الســيدة الأنيــق بإحدى العمارات الفارعة بمصر الجديدة إسـم الشـركة سلسبيل .. إنه يعطيك الإحساس بالأمان .. قبلها اتصلت بالتليفون ..تحدد لي اليوم والموعد , ذهبت إلى هناك بصعوبة بالغة .. ما زلـت إلى اليـوم ( أتــوه ) في جغرافية القاهـرة .. و دائما كانت يستعصى على عقلي مشاعر وأخلاقيات أهلها ومزاجها المتقلب .. وجدت مثل هذا الزحـام , هذه موظفة بشركة .. وهذا بمصنع , يبحثون عن تحسين دخولهم وأمثالي بالطبع كثيرون تلك الأيــام ... شهادات عليا .. وأخــرى متوسطة .. الكل هنا تساوى .. الاختبارات بالطبع كانت باللغة الإنجليزية التي نسيت مفرداتها وأنا أدرس بالكلية .. التي ما زالت بالعربيـة .. سألتني السيدة وهي تتناول منديل كي تزيل حبيبات البرد المتراكمة فوق أنفها الطويل عن أسمي ؟ أين كنت أعمل قبل اليوم ؟ أجبتها وأنا منكس الرأس .. وصورة والدي المنهك من الزمن ومصاريف تعليمي وأخوتي وانحنى ظهـر أمي على أرضية البيت كـي تنظفـها أو وهـي أماـم الفـرن البلـدي كي تخبز لنا أرغفة الخبز الجافة والنـار تلهــب وجهها مع خيـوط الفجـر صيـف شتـاء .. وكيف كنت وأخواتي نقوم بمساعدتها في جمــع الأخشـاب الجافة قبـل ذهابنـا للمدرسة .. أو عنـدما علمـت أن أبي باع الخلاط الكهربائي الذي أحضره معـه كثمرة من ثمار غربته الطويلة في دول الخـليج حتـى يسدد لي مصاريف إقامتي بالمدينة الجامعية .. ثم عاد وهو لا يملك كما قال سوى نحن أبنائه الثلاثة وثروته الحقيقة بعد أن نزف الدم لا العرق .. وها هو وأمي وأخوتي ينتظرون عودتي مظفرا من رحلتي تلك .. انتبهت وهي تسألني كــم عمـرك .. واحد وثلاثون عاماً , فجأة قامت .. تحركت نحو الباب برهة .. ثم عـادت وقبل أن تجلس فحصتني من حذائي إلى شعـري جيداً.. عـادت برأسها للخلف وتلاحمت مع تمثال ساحر إفريقي موضوع خلفها مباشرة .. طالما رأيته يطاردني في منامي .. قالت .
: سوف تظهر النتيجة في اليوم المحدد , لا تقلق
مضت شهور وأنا أنتظر ذلك اليـوم بفآرغ الصبـر ... ونظرات عائلتي بين الشك واليقين , بين بشائر الأمل والخوف من ضياع السنوات هباء .. تنبهت على صوت بائعة الخبز السوقية وهي تتشاجر مع الزبائن
: لا يقترب أحد من الخبز , أنا من يعطيكـم الحصص بدون اختيار . ومن لا يريـد أفضل له ولـي . مفهـوم
لأول مـرة أرى البائع .. تحركت نحوه . . سألته عن الجريدة .. قال
: لم تبق غير نسخة واحدة
أخذتها وفتشت في جيبي فلم أجد غير خمسة قروش لا غير .. حاولت أن ألقي نظرة عابرة .. نهرني البائع
: لا تفعل هذا أستاذ .. لا تنطلي على تلك الحـركات , دع الجريدة مكانها
بطريقـة تمثيلية حاولت تفتيش ذاتـي.. ربما .. هززت رأسي عندمـا رأيت ثلاثة من الشبـاب يتنازعون عليها من أجـل امتلاكها وكأن بها سر من أسرار الكون .. بعد أن علمت أنهم لا يريدون ألا متابعة نتيجة مباراة كرة القــدم .. تمزقــت .. تفتت .. دخل البائع ثالثا .. تحيطهم ضحكات .. قهقهة .. ظفرت من عينـي دموع بللت بقايا الجريدة
انتهت
رضا عفيفي السيد