// في حضرة ذاتِ البهــاء //
في إحـدى مسـاءات الغــروب، كـنت أجـول على طـول حـافة البحـر كي أستـرق النظـر إلى مَـداه البعــيد، متـأملـة أُفـول الشمـس، والنـوارس المحلـقة بـأجنحتهـا فوق المـوج الهـادر
سـابـحة في خيـالاتي، سـارحـة بـأفكـاري الحـالمـة ..
وإذا بصـدى أنيـن خـبيء قـادم مـن تجـاويف الصخـر،
وأنـا على مقـربة منه، تراءى لي رجـلا بهيـأة غـريبـة، متـواريـا خلـف الضبـاب الهـائل، يعـانق الشفـق الأحمـر، شَعـره الأشعـث يـلامـس كتفـيه، كرجـلٍ مـن العـصور الوسـطى، مطمـوس المـلامح والهـوية، بعـدمـا وهـن الجسـد وبهـتت الـروح، وتمـلّك منـه اليـأس ..
كان عـالقـا في مـاضيه .. يغـوص في فِكـره المبعـثر بنظـرات متجهّمـة تتمـادى نحـو الأفـق البعــيد ..
اقتـربـت منـه شيئـا فشيئـا، رغـم ارتطـام هـدير المـوج الصـاخـب على الجـرف الصخـري
وفي كل خـطوة، كانت نظراتـه الواجمـة تبعـث في قلـبي خفقـة محـبِطة
حيث بـدت غـرابته في مـلامحـه وهو يرمقـني مـن أعلى نظـارته، وفي يـده كِـسرة خـبز يـابس، عليهـا آثـار مـرق نـاشـف، يطعـم بـها النـوارس
تنـهد السـؤال في جـوفي، وأنـا في حـيرة من أمـره "عمـا يفعلـه على حـافة الصخـر"
أجـابني بهـدوء تـام : كمـا تـرين ..
" المــوج أنيـسي والنـورس والغــروب " ...
وبـدأ في سـرد حكايتـه الواجمـة بتجاويفـه النـاشفـة ..
حيـث قـال :
استبـدَّ بي البشــر، وآلمـتني الخـديعـة حـتى انفصلـت عـنهم، وضللت منطويـا على أهـوالي ..
ٱلتهمـني العـصر الخـائن، والنـاس عديمـو المـروءة.
فاغرورقـت عينـاه بـالدمـوع
تنفـس الصعـداء، فغـالبتـه غفـوة مبـاغـتة بعـد أن هامستني قـرقـرة معـدته الخـاوية ..
أدركـت حينهـا صحـة كـلامه، فجلـست القـرفصاء، مستغـرقة في النظـر إليه بصمـت وحسـرة .
لكن سرعـان مـا استفـاق على مـوجـة عـاتيـة، غمـرتـه حتى أيقـظت حـواسه.
حينئـذ أخـرجت مـن حقيـبة الظهـر، كيسـا ورقيـا للوجبـات الجـاهـزة " بـرجـر اللحـم المفـروم بالجـبنة، وبعـض مـن رقـائق البطـاطس المقلـية مع مشـروب كـولا " لأقدمـه لـه، اختطـف مني الكـيس، وأخـذ يلتهـم البرجـر بنهـمٍ وتلـذذ ..
بعـد تنـاوله الوجـبة، طلـب مـني الاقـتراب مـنه، تسمّـرت أمـامه دون حـراك
فتنـاول مـن حقـيبته الرثّـة قلمـا مبتـورا، وقطعـة مـن الـورق المقـوّى الذي بلّلـه المــوج ..
ثـم أخـذ يتـأملـني برهـة .. وهو يقـوم بتخليل لحيتـه الكثـة،
أخـذني الذهـول وهـو يرسمـني
حيـن انتـهى .. وصفـني قـائـلا :
" أنـتِ أنـثى تخـتزل بتفـاصيلهـا جمـال الحيـاة "
ابتسمـتُ لـه بِـرقّـة بـالغـة، وتبـادلنـا التحـية والسـلام ..
وأنـا أمـضي الهـوَينى بصمـتي التراجـيدي على طريـق الأفـول، خاطبني بصـوت أقـرب إلى الهمـس :
انتظـري روايتـي الأخـيرة التي ستحـمل مـلامحـك
حينهـا ابتسمـت لـه ابتسـامة عـريضة، فواصلـتُ الطريـق ...
أعجـبتُ بهـدوئه، وبثقـافته الواسعـة واحـترامه الشـديد، وطيـبته العجـيبة ..
بعـد زمـن مـديد، وصـورة الرجـل الغـريب عالقـة في ذهـني يتقـاذفهـا المـد والجـزر
وخـلال زيـارتي إحـدى المكتبـات، فيمـا كـنت أتصفـح الكـتب، لمحـت روايـة مهملـة على الـرف، وبـدافـع الفـضول تنـاولـت الروايـة، ونفضـت عنهـا الغـبـار
وإذا بهـا تحمـل عنـوانـا :
<< في حضـرة ذات البهــاء >>
ومـلامـحي على غـلاف الـرواية ...
فاطمة لغبـاري / الربـاط