[ الأمـومـة في مراحـلهـا المخـتلفـة ]
حـين تستوقفـني لوحـات عـديدة لنفـس الفـنـان، فهـذا يعـني أنهـا مخـتلـفة وعمـيقـة، وتستحـق التـأمـل والدراسـة !!
وعندمـا أنظـر إلى قـراءتهـا، فإن أحـد الأسئلـة التي تتبـادر إلى ذهـني / معـرفـة مـا هي العـلاقـة القـائمـة بين الفـنـان ولوحـته ؟!
وهنـا أمـام أعمـال التشكيلي يوسـف يصبـح الـرد غـريزيـا، لأنـه يرغـب في جعـل مشـاعـره تتكلـم !!
اللوحــة (1)
يصـوّر لنـا يوسـف (الأم) وهي في حـالـة سكينـة وهـدوء، تحـتضن طفـلهـا الرضيـع وتَلـفّـه بوشاحهـا، وكأنهـا تحـتضن الوطـن.
تُرضعـه من ثـديهـا، وتنظـر إليـه بنظـرة حـنوّ وتحـاوره، وهو يركّـز نظـره إليهـا أيضـا.
وكأنمـا يقـول لنـا يوسـف : هـا هنـا جـنّـة هـدوء !
رسـم لنـا الوجـه من جـانب واحـد، مقـابل التركـيز على تعـبيرات الأطراف وحـركات الأجـساد.
وضعـية اليـد اليمـنى للأم على الطفـل تصـرح أنهـا عطوفـة، والخـاتم في البنصـر الأيمـن يبـدو متقـنـا، ممـا يجعـل النـاظر يستشعـر (الأمـومـة الشرعـية)
فالعـديد من النسـاء يخـترن ارتـداء خـاتم الزواج على اليـد اليمـنى عـوض اليسـرى.
في الجـزء الأيمـن العـلوي من اللوحــة يظهـر لنـا (القــمـر) يُلـقي ضـوءًا صارخـا على الصـدر البـارز للأم / يكشـف لنـا يوسـف عن أمـل في الاستشـراف، فَوجـه الطفـل يحـمل إشراقـة بـريئـة.
نلاحـظ قـوة الإرتبـاط العـاطفـي بين الأم والطفـل، وهـذا يـدل على أن الأم مصـدر القـوة ومركـز الأمـان لهذا الكائـن الصغـير.
فالأم تمثـل السنـد والإحـتواء والتضحـية والعـطف والإخـلاص والأمـان والإنتمــاء والعـطاء بلا حـدود..
المشهـد على بسـاطتـه ينطـوي على جـرعـة لطيفـة من عـاطفـة الأمـومـة والحـنـان من الأم نحـو طفـلهـا.
اللوحـة مثـاليـة وعاطفـية أكثـر من اللازم، لأنهـا تُشعـرنـا بالأمـل والمستقـبل.
اللوحــة (2)
تظهـر لنـا (الأم) واقـفة في هـدوء تـام، تُعـطي ظهـرهـا للنـاظر، وهي تحـمل صغـيرهـا وتنشـر الغسـيل.
وإلى جـوارهـا قـط أبيـض ذو مظهـر لطيـف يحـدق في الطفـل حـيث يرفـع أحـد ذراعـيه، وهذا يـدل على مـدى سعـادة الطفـل ومـدى ارتيـاحـه في ظهـر الأم / فيصبـح المشهـد أكـثر حـيويـة.
بينمـا الخلـفـية توحـي بالربـيع، حـيث يظهـر لنـا الجـزء الهـادئ من الحديقـة محـاطة بزنـابق بيضـاء، ممـا يضفـي لمسـة من الحـيـاة على المشاعـر المعـقدة.
فالطبيعـة قـادرة على النمــو والتجـدد حتى في ظـل المشاعـر السلـبية، ممـا يعكس تـوازن الحـيـاة بين الحـزن والفـرح.
كمـا استخـدم يوسـف اللـون الأزرق الداكـن في الجـزء العـلوي من اللوحـة تعـبيراً عن السمــاء ومـا تُخـفـيه من أسـرار...
هذه اللوحـة تعكس ثقـافـة المكان الذي ينتـمي إليـه يوسـف وشفـافـية روحـه، حـيث جعـلنـا نستشعـر الرضـا وراحـة البـال رغـم بسـاطة المكـان الذي تفـوح منـه رائحـة الأمـان.
اللوحـة (3)
صـوّر لنـا فيهـا يوسـف الحقـيقـة القـاسـية للأمـومـة بالخصوص (الأم) الصابـرة البسـيطة المضحـية من أجـل أبنـائهـا، لتأمـن لهم العـيش الكريـم والحـمـاية والحـنـان على الأقـل.
ولعـل هذه اللوحـة تعـبّر عن الحـالـة العـاطفـية والنفسـية ليوسـف، رسمـهـا بدافـع الشـوق والحـنيـن إلى تلك الأيـام التي ظلّـت تؤثـر في خـيـالـه.
اللوحـة (4)
تـوضح لنـا [ متلازمـة العـش الفــارغ ]
بـدءاً من المشهـد الخلـفي وصـولا لمقدمتـه، نجـد أن خلفـية اللوحـة (جـدار) استخـدم فيـها يوسـف درجـات البنـي القـاتم والداكـن، ليسلـط عـين الـرائي بشكـل أكـبر على موضوع اللوحـة الرئيسي.
فإنـه يدفـع الـرائي للتسـاؤل حـول مـا تفكـر بـه الأم، حـيث تسنـد وجههـا على يـدهـا، إلا أننـا لا نكـاد نـرى تفـاصيل الملامـح واضحـة، عـدا تلك الإيحـاءات المنكسـرة للجـسـد التي تتمثـل في نظـرات غـامضـة نحـو العـش الفــارغ.
ورغـم أن ملامـح الوجـه غير واضحـة، فيبـدو جـليـا من أجـواء اللوحــة أن (الأم عجـوز) تحـمل همّــاً مـا.
التشكيلي أغـفـل مـلامح الوجـه، لإيصـال فكـرة اللامعـرفة والغمـوض.
وضعـية الأم العجـوز تُشعـرنـا بـالحـزن/ الترقـب/ الدمعـة المحـبوسـة/ الحـيرة/ الوحـدة/ الحـرمـان/ الإحـبـاط/ الجـفــاء/ النكـران، نتيجـة مغـادرة الأبنـاء البيـت.
نظـراً للفـراغ الكبيـر الـذي سيلحـقهـا بحـيـاتهـا، والشعـور بفقـدان القـيمـة، كمـا لـو أن صلاحيتهـا قـد انتـهـت !!
الأمــر الـذي يثيـر الشفقـة والتعـاطف لـدى المشـاهـد.
رداء الأم جـاء باللـون الرمـادي الداكـن، لأنـه يرتبـط بمشاعـر نفـسـية عمـيقـة من الوحـدة والحـزن، وهو مستمـد من درجـات وتـأثيـر اللـون الأسـود / وقـد ترافقـه مشاعـر الإحـبـاط.
في الجـانب الأيسـر من اللوحــة تنبثـق لنـا من قلـب الظـلام، شجـرة توحـي بالخـريف، يحـط فـوق غصنـهـا اليابـس (طائـر أبيـض) حـيث يمكنـه بنــاء عـش جـديد لنفـسـه.
الطـائر الأبيـض يرمـز إلى بـداية جـديدة وأمـل، بينمـا شجـرة الخـريف ترمـز للفـراق والحنـين إلى المـاضي.
التشكيلي يوسـف قـام بتوظيف التشبيـه والإستعـارة هنـا، حـيث شبّـه العـش الفــارغ / بالبيـت
الطائـر الأبيـض / بالإبـن
شجـرة الخـريف / بالأم العجـوز
|| التظليل الغـامق || يحـيط اللوحـة من كل جـانب، ممـا يعكس الملل والقلـق وقلـة الثقـة بالنفـس والتوتـر الداخـلي للتشكيلي يوسـف.
فالتظليل الغـامق هنـا يـواري التنهـيدة والأنـين، ممـا جعـل يوسـف يفتـح نـافـذة في الجـزء العـلوي الأيسـر للجـدار، ليدخـل الضـوء كي يمنـح اللوحـة بعض الحـركة، ولكي يكسـر الظـلام، ونحـس بأن اللوحـة تتنفـس.
استخـدم يوسـف الطبيعـة (الربـيع والخـريف) في اللوحـة (2) و (4) كوسيلـة للتعـبير عن التنـاقضـات العـاطفـية التي تعـيشهـا الأم، لأن الطبيعـة تتغـيّر من فصـل إلى آخـر، كذلك مشـاعر الإنسـان تتغـيّر وتتقلّـب.
الربيـع يرمـز إلى البدايـات الجـديدة والأمـل، بينمـا الخـريف يرمـز إلى الفـراق والحـنـين إلى المـاضي.
هذه التّغـيّرات الطبيعـية تعكس بشكل بديـع التّغـيّرات العـاطفـية التي يمـر بهـا التشكيلي يوسـف، ممـا يجعـل النـاظر يشعـر بتلك المشاعـر، وكأنهـا جـزء من تجـربتـه الشخـصيـة.
فاللوحـة (4) تعـد من أقـوى الأعمـال التعـبيرية التي رسمهـا يوسـف بلغــة تشكيليـة تتمـيز بالبـراءة وبسـاطة الفـطرة، وتخـاطب الحـزن العمـيق الذي تعـيشه الأم حين مغـادرة أبنـائهـا البيـت.
اللوحــة (5)
يكشـف لنـا يوسـف الجـانب الإنسـاني بحـيـاته، أنـه كان بـاراً بوالـدته رحـمهـا الله، كما كان حـريصـا عليهـا، جعـل مشاعـره تتكلـم، فهو غـزير الجـرح في ثنـايـاه...
في الخـتـام، بـرع التشكيلي يوسـف في تجـسيد مشاعـر الأمـومـة بأحـاسيسـه المخـتلفـة، إذ يقـرّبنـا برهـافـة شـديدة من مشاعـر الأم في علاقتهـا بطفـلهـا، ليس فقط من بـدايـة مرحـلة التكـوين، بـل عـلاقـة المـرأة بمشاعـرهـا، والرحـلة التي تخـوضهـا، وذلك في سبيـل منـح طفـلهـا [الحـيـاة]
فالأمـومـة شـيء غـريزي وطبيـعي داخـل كل امـرأة، ولا يمكـن تقـديرهـا بمقـدار.
كما استطـاع أن يعــبّر عنهـا كحـضن كبيـر يحـتضن الوطـن.
بالمجـمل يمكن أن تُفـسّـر هذه اللوحـات التي بين أيدينـا، كدعـوة للتأمـل في مشاعـر الأمـومة المتنـوعـة، وكيف تتداخـل وتترابـط في سيـاق التجـربة الحـيـاتية.
وعند قـراءتهـا بشكل أعمـق، يمكننـا استكشـاف معـاني متعـددة ترتبـط بالتجـربـة الإنسـانيـة بشكل شامـل.
أخـتم بقـوله تعـالى : {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}
(الأحقاف:15)