[ مراحـل يـوم القيـامة العظـمى وأهوالهـا ]
في هذه اللوحـات مـا يُغْـني عن الإطـلاع على تفـاصيلهـا...
فنحـن أمـام انتهـاء المشهـد الوجـودي وإسـدال الستـار على فصـول الحـيـاة.
إنـه يـوم الفـصل والحصـاد نتيجـة الإخـتبـار !!!
يـوم ملـيء بالأهـوال، ولكـنه في ذات الـوقت يـوم للعـدالة والمسـاواة.
ومن خـلال هذه اللوحـات المعـروضة، سيـأخـذنـا الفـنـان العظيـم يوسـف الكرتيلي في رحـلـة استثنـائيـة عـبر أهـم الأحـداث التي ستقـع في يـوم القيـامـة بأهـوالهـا ومخـاوفهـا، والتي وردت في القـرآن الكريـم والسـنّة النبـوية الشريفـة.
بـدءًا من النفخـة الأولى في الصـور، مـروراً بالبعــث والنشـور، ثـم الحشـر، ثـم الحسـاب، وصـولاً إلى المـيزان والصـراط.
|| الحـدث الأول — النفـخ في الصـور ||
ننطلـق من خـلال اللوحـة (1) حيث يتضـح لنـا في المشهـد سحـابة بيضـاء منتفخـة، بينمـا الخلـفـية معـتمـة ومخـيفة، تثـير الفـزع الأكـبر.
من هنـا يمكننـا القـول أن (الرعــد) منطقـا للسحـاب
فسبحـان الـذي يسـبّح الرعـد من حمـده والمـلائكة من خـيفـته.
إذن فـ(الرعـد والنفـخ في الصـور) كلاهمـا بتدبيـر الله تعـالى
استخـدم يوسـف السحـاب للتشبيـه بـ (النفـخة الأولى في الصـور) وهـذا من أحسـن التشبـيه.
حيث يأمـر آلله عـز ذكـره ”الملَك إسرافيل“ بالنفـخ في الصـور.
والصـور عـبـارة عن قـرن مثل البـوق يُحـدِث صوتـا مهـولا ينفـخ إسرافيل النفـخـة الأولى، ويفـزع كل من في السماوات والأرض من شـدة الصـوت.
حيث ورد في القـرآن الكريـم في قـوله تعـالى : ﴿ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ الزمر 68
(الصـوت) هنـا بوصفـه إيحـاءً في اللوحـة.
التشكيلي يوسـف نجـح في العمـل على جـدلـية اللونـين (الأبيـض والأسـود) للتعـبير عن الحـيـاة والمـوت // الوجـود والعــدم.
|| الحـدث الثـاني — البعــث والنشـور ||
تلـيهـا النفخـة الثـانيـة، وهي نفـخـة البعــث الموضحـة لنـا في اللوحـة (2) و (3) حـيث نـزّل الله مطـرا كأنـه الطَّـلُّ، فتنبـت منـه أجسـاد المـوتى بلا روح بعـدمـا كانوا رفـاتـا، فتنشـق عنهم القـبور وتعـود إليهم الأرواح بعـد أن تتكامـل الأجسـاد، وينهض المـوتى مفـزوعـين حفـاة عـراة، وكأنهم كانوا في سبـات طويـل، كل شيء يصير فوضى...
|| الحـدث الثـالث — الحـشر والحسـاب ||
وتبـدأ (مرحـلة الحشـر والحسـاب) التي صورهـا لنـا يوسـف في اللوحـة (4) معبِّـرا بلفـظ الجـلالة ﴿الله﴾ حيث ينطلـق منـه النـور الساطـع 💥
ويـأتـي المشهـد الرئيـسي، لنجـد فيه أرض المحشـر والحسـاب.
يـوم تتجـلى فيـه عـدالة الله سبحـانه وتعـالى، حـيث يجـمـع البشـرية جمـعـاء في موقـف واحـد، يتسـاوى فيه الخـلـق في وقـوفـهم مشدوهـين ومذهـولين من هـول المـوقف أمـام عـرش الرحـمن، حيث لا شمـس ولا قمــر ولا نجـوم، سـوى نــور الإلـه رب الأربـاب والحـاكم بأمـره على عـبـاده ومخـلوقـاته.
عنـد التـأمـل في موضوع هذه اللوحـة، نـرى مساحات يحـتلهـا (اللـون الأبيـض) الـذي يمـاثـل الكفـن، في ذلك المشهـد الصامـت الثـابت.
إننـا أمـام رغــبة إلــهية انتهـت عنـد هذا الحــد !!!
كل هذا يعـني أن وجـودنـا لا يسـاوي شيئـا أمـام الوجـود الإلـهي الأزلـي الأبـدي لنكون بمثـابة نقــطة على خـط مستقـيم لا نهـائي...
بـرع يوسـف في صنـع نمـوذجـا يعكس قـاعـة المحـاكمـة الإلـهية في هذا اليـوم العصيـب، ويبتكـر من خـلال خلـيط فـني ومهـاري يجمـع السريـالية والتعـبيريـة والتراجـيدية كأدوات لسينوغرافيا المشهـد الرئيسـي، وكأننـا أمـام مسرحـية تراجـيدية لا يشبـع من مشاهدتهـا ومتـابعـتهـا، حيث رسـم بأسلـوب ذكـي ومثقـل بالمـوهبـة، كل هذه الجمـوع التي تتمثـل نصـب أعـيننـا، من لـدن سيدنـا آدم علـيه السـلام، بجمـيع طبـائعـهـا وسجـايـاهـا حتى ليحـسب النــاظر أنـه بين ظهـرانَيـهم.
(دراسـات الظـل والنـور) جـاءت في أجسـاد البشـر غـاية في التوفـيق، ومـانحـة المشهـد اقـترابـه من الواقعـية.
|| الحـدث الرابـع — تطـاير الصحـف ||
مرحـلة (تطـاير الصحـف) كمـا موضّح لنـا في اللوحـة (5) يـؤتى كل كتـاب أعمـاله.
فالمؤمـن يأخـذ كتـابه بيمـينه ويفـرح ويستبشـر، والكافـر والظـالم والمنـافق يأخـذ كتـابه بشمـاله أو من وراء ظهـره، فيدعـو بالويـل والثبـور.
إنـه يـوم ملـيء بالأهـوال، ولكـنه في ذات الوقـت يـوم للعـدالة والمساواة.
|| الحـدث الخـامس — مرحـلة المـيزان والصـراط ||
نلتفـت نحـو مشهـد اللوحـة (6) الممثلـة للجـنّــة،
حـيث يظهـر لنـا (مـؤمن) قـد تلـقى كتـاب أعمـاله الصالحـة بيمـينه، ومـيزان حسنـاته بشمـاله.
كما جـاء في قـوله تعـالى : ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ❄️ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾ الانشقاق [7-8]
فالمؤمن يمـضي سَـويّـاً على قـدر نـوره على الصـراط المتسـع دون تعـثر (يُعـطى نـوره مثل جـبل عظيـم يسعـى بين يديـه)
فلعلكم عرفتمـوه .. إنـه الصـراط المنصـوب على سـواد جهنـم، وهو الجـسر الذي يعـبر عليه المؤمنون إلى الجـنة / وإذا عـبر عليه الكفـار والمذنبون والمنـافقون سقطـوا في جهنـم.
فالمؤمـن يمـشي علـيه واقفـا / والكافـر والمنـافق والمـذنـب يمـشي علـيه جاثيـا.
فالسـائـرون على الصـراط يسـيرون بأعمـالهم، وليس بأقـدامـهم.
قـال ابن قـدامة رحـمه الله في لمعـة الإعـتقـاد : ”والصـراط حـق يجـوزه الأبـرار ويـزل عـنه الفجـار“
نسأل الله تعـالى أن يجعـلنـا من أهـل جـنتـه ورضوانـه.
توزيـع الإضـاءة منـاسبـة جـدا في هذه اللوحــة لتوضيـح بـؤرة الحـدث.
(اللـون الأبيـض) توظيفـه من خـلال تلك الدرجـة النـاصعـة البيـاض التي استخـدمـها يوسـف في رداء الرجـل المـؤمن // تـدل على انعكاس النــور من مصدره، والـذي يرمـز إلى نـورانيـة الجنـة.
نلتفـت نحـو مشهــد اللوحـة (7) الممثلـة لجهنـم واصلـين المشهـد الأخــير.
ذلك المشهـد في السعــير !!!
يظهـر لنـا المذنـب عـارٍ وحـافي القـدمين، مكبّـل بالسلاسل والأغـلال، كُـلِّف أن يسـير في الظلمـة مُكـبّـا على وجهـه زاحفـا على شـوك مدبّـب يوجـد على الصـراط، وثقــل ظهـره بالأوزار كعقــاب لـه.
فيـا لـه من مشهـد مـا أفظعـه !
الممـر موحـش ومظلـم وضيّـق مـؤدي إلى مدخـل جـهنـم، إضـافـة إلى مـا ينتظـره بعـد الصـراط من المُقـاصّة بينـه وبين إخــوانه المـؤمـنين على قنطـرة المظـالم.
فأهـل الكفــر والذنـوب والمعـاصي وأهـل النفــاق، وقـوم لـوط بشـذوذهـم الـذي تعـافـه النفـوس، يجمعـون بالأغـلال والسلاسل بين الأيـدي والأعنــاق، وتُلـقى عليهم الظلمــة، فتتلقـاهم زبـانيـة العـذاب بالخطاطيف والكلاليب، كما موضح لنـا في اللوحـة (8) التي تثـير الإحسـاس بالشـؤم والسخـط والاشمـئزاز، لأن طيـور اللوحـة ترمـز للشـر والعـذاب.
(اللوحـة (7) الممثلـة لجهنـم)
تُشِــع حـرارة باللـون البرتقـالي المـائل إلى البنّـي القـاتم، والـذي تتـدرج كثـافـته في الخلـفية تمـامـا كمـا يتـدرج اللهــب.
لقـد صـوّر لنـا يوسـف السعــير مشتعـلا بحـق.
أسلـوبه في هذه اللوحـة كان قـاسيـا جـدا وقـاتمـا.
إنـها معـادلـة الفـن الصعـبة !
التشكيلي يوسـف كان موفقـا في اختيـاره الألـوان التي تـلائـم معـاني اللوحـات، وسيطرتـه على توزيـع المنـاطق الفـاتحـة والقـاتمـة، وهذه الأدوات التعـبيريـة جميعهـا لهـا تأثيـر نفـسي على الرائـي، بغـض النظـر عمـا تشملـه اللوحـة من أحـداث يـوم القيـامة العظمـى.
وتبــقى مـا تثبتـه هذه اللوحـات في نفـوسنـا من عمـق وواقعـية الإحسـاس بمشهـد ذلك اليـوم وهيبتـه، حيث نجـدنـا أمـام تلك السينوغرافيا المركبـة الأحـداث والمزدحمـة المشهـد، والتي تحمـل جـدّية التشكيلي يوسـف في التعـامل مع مـا هـو بصدده من الإلتـزام بأحكـام دينــه.
فقد تـرك ريشتـه تنفــذ إسقــاط عقلـه وخـيالـه، ومـا استقــر في نفــسه من تصويـر عن هذا اليـوم.
فهذا العمـل الفـني الاستثنـائي محمّـل بفلسفـة ذات عـلاقـة بالعمــق والتبحّــر في مـاهـية الطـرح.
كمـا أظهـرت السـرياليـة والتعـبيريـة والتراجـيدية في مجمـل اللوحـات، مهـارتـه في توظيـف (الظـل) وعنـصر (الإضـاءة) التي هي من أقـوى سمـات العــمل، ليس من النـاحـية التقـنيـة والمهـاريـة فقـط، ولكن من النـاحـية المفـاهيمـية.
في الخـتــام،
إن هذه اللوحـات الفـنيـة، لهي من الأعمـال الجـديرة بالتوقـف عند عتبـاتهـا، حـيث تشعـرنـا بتلك القـيمـة الفـنيـة الكبيرة لأحـد عمـالقـة الفـن التشكيلي، والتي نفخـر بمشاهدتهـا ومطالعتهـا بصريـا.
أجـد في قـراءتهـا تلك المتعــة المزدوجـة الجـانب.
(فجـانبهـا الأول) هو استمـاعي بقـراءة عمـل فـني أطلقـه مبدعـه لإشبـاع رغـبـاتـه وإسكـات مثيـرات الإبـداع لديـه أي كان مقصدهـا،
و(الجـانب الثـاني )إحـداث تلك البهجـة الحـسّية والمتعــة البصرية.
أخــتم قـراءتي وأقـول :
تحــيّة لهذا العمـل البـانـورامي المهيـب، وتحــية إلى مبدعـه التشكيلي العظيـم يوسـف الكرتيلي الذي أتحـفـنـا بفــنّه.
🖋️ فاطمـة لغبـاري // الربـاط
اللهم اجعلنـا من عبـادك الفـائزين، وعن النـار مزحزحـين، وعلى الصراط من النـاجـين، وبالجنـات منعمـين وإلى وجهـك نـاظريـن
وأستغفـر الله العظيـم الكـريم لي ولكم