في أَعماقِ رَأْسٍ مُهَشَّمٍ،
تَتَشابَكُ الخُطوطُ كالأشواكِ،
تَتَماوَجُ في أَروِقَةِ الظِّلام السَوداء،
حيثُ يَتَنازَعُ الصَّمْتُ مع أَنِينِ الأَرْواحِ.
أَيُّها الضَّمِيرُ المُتَلاشِي،
يا مَنْ أَصبَحْتَ غَيمَةً تُطارِدُها رِياحُ الصِّراعِ،
أَفِي سُجونِ الذِّكْرَيَاتِ تَختَبِئُ؟
أَمْ في مُستَنقَعَاتِ الأَحلامِ الضَّائِعَةِ تَغُوصُ؟
في لَيْلِ الضَّياعِ،
تَتَمَدَّدُ الأَيْدِي نَحْوَ أُفُقٍ مُعتِمٍ،
تَبحَثُ عن وَطَنٍ مَحفورٍ في الذَّاكِرَةِ،
لكنَّ الرُّوحَ تَتَعَثَّرُ بِأَشلاءِ الحَقَائِقِ،
فَتَتَحوَّلُ الأَرْضُ إلى مَسْرَحٍ للصَّمْتِ المُنْهَكِ.
يا ضَمِيرَ الإِنْسَانِ،
هَلْ تَختَبِئُ خَلْفَ جُدرانِ الأَسئِلَةِ؟
أَمْ انصَهَرْتَ في مَعْدِنِ الزَّيْفِ؟
كُلُّ صَوْتٍ يَقتَرِبُ لِيَكشِفَ حَقِيقَتَكَ،
يَتَلاشَى كَغُصْنٍ تَكَسَّرَ في رِيحِ التِّيهِ.
تَصْحُو النُّفُوسُ على أَطلالِ ذَاتِهَا،
تُلامِسُ بَقايَا مَلامِحٍ تَنَاثَرَتْ في المَرَايَا،
لكنَّ شُعاعاً خافِتاً يَتَسَلَّلُ بَيْنَ الصُّخُورِ،
وَيُنَادِي: "البَحْثُ عنْكَ يَنْبُضُ في كُلِّ عِرْقٍ."
يا إِنْسَانَ اليَومِ،
هَلْ تَجرُؤُ أَنْ تَنْزِعَ أَقْنِعَةَ الخَوْفِ؟
أَنْ تَسْتَعِيدَ صَوْتَكَ مِنْ بَيْنِ أَصْوَاتِ الرِّيحِ؟
أَنْ تَرْفَعَ عَيْنَيْكَ نَحْوَ نَجْمٍ
يُضِيءُ عَتَمَةَ هَذَا العَالَمِ؟
في أَعماقِ الرَّأْسِ كَوْمَةُ أَوْرَاقٍ تَحْتَرِقُ،
كُلُّ وَرَقَةٍ تُخَبِّئُ مَاضِياً يَضِجُّ بِالحَيرَةِ،
لكنَّ الرَّمَادَ يُنفَثُ أَنْفَاسَ النِّهَايَةِ،
وَيُولَدُ السُّؤَالُ مُجَدَّداً:
"كَيْفَ تُصَاغُ الحَيَاةُ بِلا ضَمِيرٍ؟"
أَيُّهَا الإِنْسَانُ المُثْقَلُ بِالعَجْزِ،
تَحَرَّر مِنْ حِبَالِ الأَوْهَامِ،
وَاقتَرِبْ مِنْ ذَاتِكَ كَمَنْ يَكْتُبُ حَقِيقَتَهُ
على صَفْحَةِ النُّورِ.
اكْتُبْ مَا فَاتَكَ بِقَلَمِ الضَّمِيرِ،
لَعَلَّهُ يُضِيءُ طَرِيقَكَ وَيَغْزِلُ لِلحَقِيقَةِ خَيْطاً مِنْ ضِيَاءٍ.
ابْحَثْ عنْ ذَاتِكَ في دَهَالِيزِ الظَّلَامِ،
وَافْتَحْ بَابًا نَحْوَ النُّورِ الإِلَهِيِّ،
لَعَلَّ الحَرْفَ المُضِيءَ يُعِيدُ لَكَ وَحْدَتَكَ مَعَ الكَوْنِ في صَمْتِ التَّأَمُّلِ العَمِيقِ.
لا تَخَفْ أَيُّهَا الإِنْسَانُ،
فَالضمِيرُ شَمْسٌ لا تَغِيبُ خَلْفَ الهَزِيمَةِ،
وَفي نِهَايَةِ الطَّرِيقِ،
يُشْرِقُ كَقِنْدِيلٍ تُحَلِّقُ نَحْوَهُ أَجْنِحَةُ الأَمَلِ.
هُنَاكَ، في مَرْفَأِ السَّلَامِ الأَزَلِيِّ،
تَتَلَاشَى الوُجُوهُ المُشَوَّهَةُ،
وَيَظْهَرُ وَجْهُ الإِنْسَانِ الحَقِيقِيِّ،
بَسِيطاً، صَادِقاً، خَالِياً مِنَ الزَّيْفِ.
يا كَائِنَ السَّرَابِ،
لَمْ يَكُنِ البَحْثُ عنْكَ في الأُفُقِ،
بَلْ في أَعماقِ ذَاتِكَ السَّحِيقَةِ.
سِرْ في دُرُوبِكَ، وَلا تَخْشَ،
فَالرُّوحُ مَحْكُومَةٌ بِالبَحْثِ حَتَّى تَجِدَ أَصْلَهَا.
في كُلِّ خُطْوَةٍ يَنْبُضُ السُّؤَالُ،
يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْدَاءِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ:
هَل كَانَتِ الأَرْضُ لِتَحمِلَنَا
لَوْلا صَدَى أََحلامٍ وَأَمنياتٍ
مَا زَالَتْ تَنْبُضُ فِينَا؟
في النُّورِ نَسْتَشِفُّ بَرِيقَ الحَيَاةِ،
وَفي الصَّمْتِ نُدْرِكُ سِرَّ الخَفَاءِ.
فَاحْمِلْ في قَلْبِكَ أَمَلًا،
فَالضمِيرُ يَنْبَثِقُ كَالفَجْرِ مِنْ عَتْمَةِ الظَّلَامِ.
يا مَنْ تَسِيرُ على دَرْبِ الكَشْفِ
في غَياهْبِ الطُّرُقِ، لا تَيْأَسَنَّ إِنْ غَابَ النُّورُ.
فَالصَّمِيرُ، وَإِنْ تَوَارَى،
يَبْقَى صَدَاهُ يَهْتِفُ: "عُدْ يا صَاحِبِي."
لا تُطْفِئِ الأَمَلَ في قَلْبِكَ،
فَحِينَئِذٍ يُشْرِقُ النُّورُ،
وَتَزْهَرُ الرُّوحُ حِينَ تَتَمَسَّكُ بِجُذُورِ الحَقِيقَةِ.
ابْنِ مِنَ الحُطَامِ جِسْراً،
وَاعْتَلِ نَحْوَ حَقِيقَتِكَ،
لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيكَ،
حَتَّى إِنْ تَوَارَى في أَعْماقِ الغِيَابِ.
نص : الشاعرة دنيا صاحب - العراق
اللوحة الفنية : للفنان الرائد د. علاء بشير - العراق
_________________________
دراسة نقدية فلسفية صوفية عن قصيدة "صرخةُ الرُّوحِ في متاهةِ الضَّميرِ" للشاعرة دنيا صاحب - العراق
( الجزء 1 ) ماهية العنوان:
عنوان القصيدة، "صرخةُ الرُّوحِ في متاهةِ الضَّميرِ"، يمثل تجسيداً رمزياً لواقع النفس الإنسانية المتخبطة في صراعاتها الداخلية، حيث الروح تصرخ من أعماق متاهة تضيع فيها القيم والمعايير الأخلاقية. تشير كلمة "صرخة" إلى فعل احتجاجي قوي ينبع من الألم أو الحاجة للتعبير، بينما "الروح" هي جوهر الإنسان وحقيقته الخفية. "متاهة الضمير" تعكس ضياع الإنسان في زحمة الصراعات بين الخير والشر، بين النور والظلام. العنوان يوحي بصراع وجودي يحمل طابعًا فلسفيًا يعبر عن رحلة الإنسان نحو الحقيقة.
المعاني والمفردات الفلسفية والصوفية:
التنازع بين الصمت والأنين: في البيت الأول، تتشابك الخطوط "كالأشواك"، معبرة عن صراعات الفكر والروح. الصمت هنا يمثل حالة التأمل الصوفي، بينما الأنين يعبر عن ألم النفس التواقة إلى الخلاص.
الضمير ككيان متلاشٍ: الضمير المتلاشي في "غيمةً تُطارِدُها رِياحُ الصِّراعِ" يُبرز إحساسًا بفقدان البوصلة الأخلاقية. في التصوف، يُنظر إلى الضمير على أنه مرآة للقلب. تلاشيه يعكس ابتعاد الإنسان عن أصله الإلهي وغرقه في ماديات الحياة.
الصمت المُنهَك وأشلاء الحقائق: تتحدث القصيدة عن الأرض كمسرحٍ للصمت، ما يذكرنا بالصمت الصوفي الذي يمثل انكسار الذات أمام المطلق. هنا، الصمت ليس ضعفاً بل محاولة للعودة إلى الذات الحقيقية.
الضمير والشجاعة: تساءلت الشاعرة: "هَلْ تَجرُؤُ أَنْ تَنْزِعَ أَقْنِعَةَ الخَوْفِ؟"، مما يضع الإنسان أمام تحدٍ وجودي: التحرر من قيود الوهم والخوف واستعادة صوت الضمير الذي يرتبط في التصوف بالشجاعة الروحية.
البحث عن الذات: يمثل "فتح باب نحو النور الإلهي" أحد الرموز المركزية في الفكر الصوفي. الإشارة إلى النور الإلهي تمثل السعي للتوحد مع الله، وهو غاية كل الطرق الصوفية.
علاقة الغراب مع الضمير في الآية القرآنية:
في سياق الحديث عن الضمير وعلاقته الرمزية بالغراب، نستحضر الآية القرآنية من سورة المائدة:
"فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ" (المائدة: 31).
الغراب هنا يمثل الضمير الإنساني كمعلم وقاضٍ داخلي يوجه الإنسان نحو الصواب. في قصة قابيل وهابيل، لعب الغراب دوراً رمزياً في إيقاظ ضمير قابيل النائم بعد جريمة القتل. يظهر الغراب كمرشد يعكس حكمة الطبيعة التي تتجاوز أحيانًا حكمة الإنسان في لحظات ضعفه.
في القصيدة، الضمير يبدو كغيمة متلاطمة أو كائن متوارٍ خلف الأسئلة. يشبه ذلك حالة قابيل الذي عانى من صراع داخلي جعله في البداية غافلاً عن معنى التوبة والمسؤولية، حتى أيقظه الغراب. تُبرز القصيدة ضرورة عودة الإنسان إلى ضميره ليجد الحلول لأزماته، كما وجد قابيل طريقه إلى التعلم من مخلوق بسيط.
تحليل فلسفي وصوفي شامل:
تتأرجح القصيدة بين مفردات فلسفية تتعلق بالبحث عن الحقيقة الإنسانية وبين لغة صوفية تلامس أعماق الروح في علاقتها مع الله والكون. تأخذنا الشاعرة في رحلة من التيه إلى النور، ومن الزيف إلى الحقيقة، في عملية مشابهة للسير والسلوك في الطرق الصوفية، حيث تنطلق الروح من حالة الانكسار إلى حالة الارتقاء.
القصيدة تدعو إلى التصالح مع الضمير كمرآة للذات والبحث عن النور الإلهي كغاية نهائية. تصف رحلة الإنسان ليس فقط كمخلوق يبحث عن البقاء، بل ككائن يبحث عن المعنى والانسجام مع الكون، متحرراً من قيود الزيف والأوهام.
( الجزء 2 )
الروح بين الصراع والتحرر:
القصيدة تنطلق من تصوير الصراع الداخلي للروح البشرية وهي تحاول البحث عن ذاتها الحقيقية وسط تعقيدات الحياة المادية. فكرة الروح هنا ترتبط بفلسفة الوجودية حيث يُنظر إلى الإنسان ككائن مضطرب في وجوده، يبحث عن معنى في عالم عبثي. لكن القصيدة لا تقف عند حدود العبثية بل تتجاوزها، متوجهة نحو النور الإلهي كمصدر للخلاص. هذا التحول يعكس الفكر الصوفي الذي يرى في الألم والتأمل وسيلة لتهذيب الروح وإيصالها إلى الحق المطلق.
الضمير كصلة بين الذات والمطلق:
في النص، يُطرح الضمير كمعيار أخلاقي غائب أو مضطرب، لكنه في الوقت نفسه طاقة يمكن استعادتها من خلال العودة إلى الذات. في الفلسفة الأخلاقية، يُعد الضمير جوهر إنساني يوجه الفعل وفقاً لقيم الخير. أما في التصوف، فهو مرآة القلب، تعكس ارتباط الإنسان بخالقه. هنا، تتقاطع الفلسفة مع التصوف؛ إذ يرى كلاهما أن الضمير ليس فقط أداة أخلاقية بل وسيلة لإدراك الحقيقة.
النور والظلام كرموز فلسفية وصوفية:
النور في القصيدة يمثل رمزاً متعدد الأبعاد. من الناحية الفلسفية، يشير إلى المعرفة والوضوح، وهو ما يتوافق مع رؤى أفلاطون الذي اعتبر النور (الشمس) رمزا للحقيقة المطلقة. أما في التصوف، فيرمز النور إلى الحضور الإلهي والفيض الروحي الذي ينير ظلام الجهل والشك. الظلام هنا ليس فقط غياب النور، بل حالة من التيه والاغتراب عن الذات، وهي حالة تعبر عنها الشاعرة كمتاهة يعيشها الإنسان المعاصر الذي أضاع قيمه الأخلاقية والروحية.
السؤال الفلسفي ودوره في الكشف:
القصيدة تمتلئ بالأسئلة التي تمثل أسلوباً فلسفياً مألوفاً لإثارة التفكير والكشف. السؤال "هَلْ تَجرُؤُ أَنْ تَنْزِعَ أَقْنِعَةَ الخَوْفِ؟" هو دعوة للذات لتحرير نفسها من قيود التردد والخوف، ليكون الإنسان قادراّ على مواجهة حقيقته. هذا النوع من التساؤل يذكرنا بفلسفة سقراط الذي رأى في السؤال أداة لكشف الجهل والاقتراب من الحقيقة.
البحث عن الذات في التصوف والفلسفة:
في التصوف، يُعد البحث عن الذات رحلة وجودية تُخاض بهدف الوصول إلى مقام "الفناء" حيث تتوحد الذات مع الخالق. القصيدة تلامس هذا المفهوم من خلال دعوتها المتكررة للإنسان بأن "يبحث عن ذاته في دهاليز الظلام". هنا يتحول الظلام إلى رمز للباطن أو الداخل المليء بالأسرار، وهو ما يعكس مفهوم "السر الأعظم" في التصوف الذي لا ينكشف إلا لمن يجرؤ على دخول أعماق نفسه.
الأمل كطاقة فلسفية وروحية:
الأمل في القصيدة هو الضوء الخافت الذي يظهر بين "الصخور"، و"القنديل" الذي يضيء عتمة العالم. الأمل هنا ليس مجرد تفاؤل عابر، بل قوة دافعة نحو التغيير والتحرر. في الفكر الفلسفي، يمثل الأمل دافعًا للإستمرار رغم عبثية الحياة، كما وصفه كامو في فلسفة التمرد. أما في التصوف، فهو حالة روحانية تربط الإنسان بالله، مما يمنحه طاقة للثبات والصبر في مواجهة المحن.
الضمير كجوهر إنساني خالد:
في خاتمة القصيدة، يظهر الضمير كـ"شمس لا تغيب خلف الهزيمة"، مما يرسخ فكرة أن الضمير هو الجزء الخالد من الإنسان. من منظور فلسفي، يشير هذا إلى أن القيم الأخلاقية والضمير هما جوهر إنساني عالمي يتجاوز الزمان والمكان. في التصوف، يمثل الضمير ما يربط الإنسان بالنور الإلهي، وهو دليل الروح في رحلتها نحو الحقيقة.
المعنى الكوني والإنساني للقصيدة:
القصيدة تتجاوز الذات الفردية لتطرح سؤالاً كونيًا: "هل كانت الأرض لتحملنا لولا صدى أحلام وأمنيات ما زالت تنبض فينا؟" هذا السؤال يعبر عن وعي إنساني عميق بعلاقة الإنسان بالكون، وهو وعي يرتبط بالفلسفة الظاهراتية التي ترى العالم كشبكة من العلاقات بين الإنسان والموجودات. في التصوف، يعكس هذا السؤال إحساسًا بوحدة الوجود، حيث تُعتبر الأرض وكل عناصر الكون مظاهر للذات الإلهية.
الخاتمة:
تجمع القصيدة بين العمق الفلسفي والتأمل الصوفي، لخلق صورة شاملة عن الإنسان في بحثه عن ذاته وحقيقته وسط عالم متغير. إنها دعوة للتحرر من الزيف، والعودة إلى الضمير كمرآة تعكس النور الإلهي. بين الصراع والأمل، وبين الظلام والنور، تتركنا الشاعرة أمام رسالة قوية: الإنسان قادر على استعادة ضميره وإعادة بناء ذاته إذا امتلك الشجاعة للبحث في أعماقه ومواجهة حقيقته.