dimanche 16 mars 2025

الجـزء الحـادي عـشر من روايتي *صفـحـة من دفـتر قـديم*

فاطمـة لغـبـاري // الربـاط

(درب السلطان : حكايات لا تنـام)

••• بعـد مغـادرتنـا مقـهى "بّـا عـلال" تركـنـا خـلفنـا أصـداء الذكـريـات التي كانت تمـلأ المكان، وانطلـقنـا في رحلـة عـبر الزمـن بين أزقــة درب السلـطان، حـيث كانت الجـدران العـتيقة تهمـس بحكايات منسـية، وكأنهـا صفحـات مفتوحـة من دفـتر قـديم، تحـمل بين طياتهـا عـوالم ملـيئة بالقصص.

قـادتنـا خـطواتنـا نحـو سـوق القريعـة، حـيث تمـازجـت أصوات البـاعـة مع ضحكـات المـارة ونـداءات المسنـين في سيمفـونية نـابضـة بالحـيـاة.
وتسللت روائـح التـوابل الزكـية بين الأزقـة، تنثـر عـبيرهـا كرسـائل عـتيقـة تحـمل في طيـاتهـا دفء الذكـريـات وعبـق المـاضي.

توقـفنـا أمـام بـائـع "البيصارة"، حـيث كان القِـدر النحـاسي القـديم يغـلي بالحسـاء، تنبعـث مـنه رائحـة تخـتزل دفء الشـتـاء العـتيق. 
والطاولات مـزدانـة بأوانٍ خـزفـية تحكي حكايات الأجـداد، وإلى جـانبهـا خـبز الشعـير وزيـت الزيتـون، كأنهمـا وصيـة الزمـن لطعـم لا ينـدثـر. 
جـلسنـا على مقـاعد خـشبية متآكلـة بفعـل الزمـن، ننتـظر طبـق البيصارة بشغـف. 
فجـأة، لفـت انتبـاهنـا عجـوز جـالس على كـرسي مهـترئ، يتنـاول طبقـه بتـأمـل عمــيق، وكأن كل لقـمـة تحـمل أسـرار الدهــر.
نظـر إلينـا بنظـرة دافـئة، كأنـه يـرى فينـا امـتدادا لحـكاية لـم تكتمـل.
 
همـستُ إلى حـسن بفضـول :

"ألا تـرى أن ذلك العجـوز يبـدو وكأنـه سفـير من المـاضي ؟"

التفـتَ إليّ مبتسمـا، واقـترب حتى كـاد يلامـس وجـنتي، وهمـس :
 –"بـل هـو المـاضي بعـينيـه."
 
توهجـت عينـاي حمـاسـةً، فقلـت لـه :
– "لنقـترب مـنه، ربمـا يحـمل حـديثـه سحـر الأيـام الخـوالي."
 
أومـأ حـسن، وعلى شفـتيه ابتسـامـة تنـمّ عن فضـول عمـيق، وحـنين إلى مـاضٍ بعــيد. 
حـين اقـتربنـا، أشـرق وجـه العجـوز بابتسـامـة تعـبق برائحـة المـاضي.
تفـاجـأ حـسن، وحـدق في ملامحـه التي خـطهـا الزمـن، ثـم قـال بدهشـة : 

– هذا هـو "بّـا صطّـوف"، الحكواتي الـذي جـاب البـلاد، نـاشـرا الحكـايـات والأمثـال الشعبية !..

رفـع العجـوز رأسـه، ونظـر إلينـا بعـينين يلمـع فيهمـا وهـج ذكـريـات لـم يخفـت بريقهـا بعـد، ثـم أشـار إلى حـسن بيـده قـائلا :

– "أهـلا بـابـن درب السلـطان ! للحكـايـات طعـم آخـر حـين تُـروى بين أهـلهـا."

جـلسنـا حـولـه تحـت ضـوء مصبـاح قـديم ينبعـث مـنه وهـج دافـئ، فالتفـتُّ إلى حـسن، وعينـاي تتوهجـان بالفـضول، ثـم همـستُ بصـوت خـافـت :

–" لطالمـا ظننـت أنك ابـن درب السلطان .. لكنني أذكـر جـيدا تلك الليلـة البيضـاء في القـطار، عندمـا كنـا متجـهـين إلى مراكش، يومـهـا همسـتَ لي أن رحـلتك لن تنتـهي هنـاك، بـل ستـواصل الطريـق إلى تـارودانـت لِلِقــاء أهـلك."
 
توقـفَ لَحـظة، كأن سـؤالي لامـس شيئـا بداخلـه، فارتسمـت على وجـهه ابتسـامـة، وقـال بصوتـه الهـادئ :  
"نشـأتُ هـنـا .. في درب الشرفـاء تحـديدا، حـيث كانت خطـواتي الأولى، ولكن جـذوري ... تمـتد أبعــد من ذلك بكثيـر.  
والـدي من تـارودانـت، أمـا والـدتي، الحـاجـة فـاطمـة، فتنتمـي إلى الصويـرة."

تـأملـتُ كلمـاتـه محـاولـة أن أترجـمهـا إلى صـورة حــيّة في خـيـالي، حـيث كانت طفـولتـه تنسـاب بين أزقـة درب السلطان، تعـبُر عـبر قـلاع تـارودانـت، وتغـرق في أمـواج الصويـرة. 
ابتسمـت، وسـألتـه بفضـول :
   
–"أنـت ابـن المـدن الثـلاث؛ أيّهـن أقـرب إلى قلـبك؟"

ارتسمـت على شفـتيه ابتسـامـة تحـمل بين طيـاتهـا مـزيجـا من الحـنيـن والسخـرية، ثـم تنهـد بعمــق، وكأن ذكـريـات قـديمـة تخـرج من بين أضلعـه :

– "القـلـب يـا حـبيبـتي، لا تستهـيني بغـرابتـه ! 
فهـو يتسـع لكل الأمـاكن التي منحـتـه الـدفء يـومـا."

راقـبتُه جـيدا، وكأنني أبحـث عن أثـر لذكـريـات غـامضـة في عـينيه، ثـم سـألتـه مجـددا، كأنني أُصـرّ على فـك شيفـرة المـاضي :
 
– "وأيهمـا أقـرب إلى قلـبك : الصويـرة أم تـارودانـت؟"
 
– ابتسـم مـرة أخـرى، وقـال بثقــة : 
"الصويـرة ... بـلا شـك" 

لـم أكن أتوقـع أن يـأتي جـوابـه بهذه السـرعة، وكأنمـا كان يترقـب سـؤالي.  
ضحـك بخـفّـة، ثـم مـال نحـوي، كمـن يوشك على كشـف سـر صغـير، وقـال بنبـرة مـازحـة تخـفي وراءهـا حقـيقـة مـرّة :
– "لـم تحـبني عائلـة والـدي يـومـا."

 لـم أتمـالك نفـسي من الضحـك، فبـادلـتـه الابتسامـة، غـير أنني لمحـت في عـينـيه بريـق حـزن مكبـوت، كأنمـا يُخـفي وراءه حكايـة لـم تُـروَ بعـد.
في لحـظة، بـدا كطفـل يبحـث عن الحـب، في العـيون التي لـم تهـدهد قلـبه كمـا كان يحلـم. فابتسمـت لـه بحـنـان، محاولـة تخفـيف وقـع الذكـرى العـالقـة بين أنفـاسـه، وهمسـتُ :

"احتضنتكَ الصويـرة، فغَـدتْ وطنـا ينبض بـه قلـبك .! "

أومـأ برأسـه، وقـال بهـدوء تـام :
– "فيهـا كنت دائمـا مرحّـبـا، كنت جـزءا منهـا دون أن أحـتاج لإثبـات ذلك."

في تلك اللحـظة، شعـرت أنني لا أسمـع كلمـاتـه فقط، بـل أعـيشهـا معـه، أراهـا تتجـسد في ضـوء المصابيح القـديمـة، في صمـت الأزقـة، في تلك الأصوات البعـيدة التي تحـولت إلى همـس عـابـر. 
وكأن درب السلطان نفـسـه، كان ينـصت إلينـا، ويحـتمي بحـكايتنـا بيـن جـدرانـه العـتيقـة.
 
عـمّ الصمـت بيننـا، لكـنه لـم يكن صمتـا عـابرا، بـل كان صمـتـا ثقـيلا، مشحـونـا كمـا لـو أن الزمـن توقّـف في لحـظتـه، حتى قـطع "بّـا صطـوف" السكون بصوتـه الأجـشّ، الـذي يخـرج من بين شفـتيـه كأصـداء قـديمـة، وكان حديثـه يسحـبنـا إلى زمـن آخـر :
 
– "في عـام 1949، تـأسـس نـادي الرجــاء البيضـاوي هنـا، واجـتمع الوطنيـون والمقـاومـون في مقـهى "بّـا صالـح" بـدرب السلطان، لتـأليـف فـصل جديد من فصـول النضـال والوطنـية. 

ثـم أشـار بسبـابتـه المتجعـدة نحـو السمـاء، وصوتـه يهـتز بالفـخـر :
 
– "كانت روح المقـاومة تسـري في عـروقهم، كأنهـم نجـوم تضـيء دروب الأمـل بالعــز والفـخـر."

لـم يكن حـديثـه مجـرد سـرد تـاريـخي فحـسب، بـل كان يحـيـاه بيننـا، كأن شخـوص المـاضي تجلـس معنـا في دائـرة الضـوء الخـافـت.
  
تساءلـتُ بفضـول :
–"مـا الذي ألهمـكم في تلك الأيـام ؟"

– أجـاب أحـد الجـالسـين بجـواره، وعـينـاه تسـرحـان في الأزقـة، كمـن يُعــيد قـراءة صفـحـة من عـمـره :
 
– "كل زاويـة في درب السلـطان، تحـمل وشوشـة من مـاضٍ لـم ينطفـئ، لـم نكن نسـير في أزقـته، بـل كنـا نبحـث عن أنفـسنـا في ظـلال الحكـايـات التي لـم تكتمـل، نلتمـس دفء اللحـظات التي لـم تغـادرنـا قـط."
   
تدخّـل حـسن قـائلا بصـوت يغـمـره الإحـترام :

– "كأنمـا نحـن اليـوم لا نصغـي إلى حـديثكـم، بـل نحـيّي ذكـريـاتكم بأرواحـنـا."
 
في تلك اللحـظة، شعـرت بِيـد حـسن تتسلل برفـق إلى يـدي، كأنهـا تبحـث عن دفء المـاضي الـذي يحـمل معـه عطـر الحـنيـن والذكـريـات. 
نظـرت إلـيه، ولمحـتُ في عـينيـه مـزيجـا من الحـنيـن والإعجـاب، وكأن اللحـظة تخـبئ في طيـاتهـا وعـدا بلقـاءات جـديدة تحـمل روح المـاضي.

حـين همهـمنـا بالمغـادرة، ودّعْـنـا " بّـا صطّـوف" بـابتسـامـة امـتنـان على كرمـه السـخي في حـكـايـاتـه التي لا تنضـب، حـيث قـال مبتسـمـا :
 
"سأبـقى هنـا، أترقـب لقــاء الأرواح المتعـطشة للذكـريـات."

استـأنفـنـا سـيرنـا، حتى قـادنـا عبـق التـوابل إلى عـربة بـائـع 'الببـوش' حـيث كان الطبـق الفـريد من الحلـزونـات يُطـهى في مـرق متبّـل بالأعشـاب والبهـارات؛ يتصاعـد بخـاره عـاليـا كنـداءٍ للعـاشقـين..
إلتفـتُّ إلى حـسن بابتسامـة رقيقـة فقلـت : 
– "أنـا من عشـاق 'الببّـوش'، دعـنـا نتذوقـه معـا ؟"
 
ضحـك قـائلا : 
– "كمـا تشائيـن، عـزيزتي، لنجعـل من هـذه اللحـظة وليمــة من الذكـريـات."

تنـاولنـا الطبـق معـا، ونحـن نتبـادل الضحكات والحـكايات، لـم يكن 'الببـوش' مجـرد وجـبة، بـل كان طقسـا من الحمـيمية.
لقـمة تسـرد حكايـة، ورشفـة من المــرق الساخـن توقـظ ذكـرى أخـرى ..
هكذا سـارت خطـواتنـا في درب السلـطان، حـيث يخـبى كل ركـن صفـحـة من سفـر الزمـن، وكأن الحكايات تدعـونـا لِلقــاء جـديد مع كل فصـل ...

ومضات / اكتمل البدر؛ غارت النجوم. أحكم الليل وثاقه؛ استيقظت ضمائرهم. أشرق الصبح؛ ازدادو خجلاً. لفظ القلم أنفاسه; اختنقت الكلمات. وجد دابته؛ ...