dimanche 6 avril 2025

✍🏻فاطمـة لغـباري(حكايا من ظلال مقـهى الحـافة.

الجـزء السـادس عشـر من روايتي 
   *صفـحـة من دفــتر قـديم*

  ✍🏻 فاطمـة لغـباري

(حكايا من ظلال مقـهى الحـافة)

••• حـينمـا تمـاهت روحـي مع أمـواج بحــر بليـونش، شعـرت بأنفـاسـه الهـادئـة تتغلـغل في أعمـاقي، كأنهـا تفـتح لي صفحـات جـديدة من دفـتر العــمـر.
في خضـم تـأملي العمـيق، توجـهت نحـو مقـهى الحـافـة العـتيق، المتشبّث بجـرف طنـجـة، كأنـه امـتدادٌ لذاكـرة المدينـة الحــيّة، يـروي بصمـوده أحـلام العـابرين المبعـثرة. تراقـصت أمــامي تدرجـات البحــر والسمــاء، مشكّلـة لوحـة فـنيـة بديعـة، يلتـقي فيهـا الأزرقـان في الأفـق البعــيد. 

بينمـا كـنت أخـطو نحـو الطاولات الخشـبية التي نخـرتهـا السنـون، استقـبلني النـادل العجـوز 
"بّـا عْـرُوبَـة"، بِلبـاسـه التقلـيدي الـذي يعكس عبـق التـاريخ، وبابتسامـة تحمـل بين ثنـايـاهـا عُمُــراً من الحكايات.

"أهـلا وسهـلا بـك في هـذا المعـلم الثقـافي، حـيث يلتـقي الحـاضر بالمـاضي، وتنسـاب القصص بين أكـواب الشـاي."

ابتسمـتُ لـه وأجـبت بامتنـان :
"ترحـيبك الـدافئ أضفـى على المكـان شعـوراً بالأنـس والراحـة." 

أخـذت مقعـدي على الطاولـة المجـاورة لـه. بعــد لحـظات، عـاد حـاملا كـوب شـاي بالنعـنـاع، ووضعـه أمــامي برفـق. شكـرتـه بابتسـامـة، ثـم سـألتـه بفـضول :

"مـا المـزايـا التي جعـلت هذا المعلـم التـاريخي مقـصداً للـزوار؟"

جلـس على المقعـد المقـابل لي، وابتسـامـة دافـئة تعـلو وجـهه، ثـم قــال بصـوت مبحـوح :
   
"أتعـلمين يا ابنتـي أن هذا المقـهى، بفـضل موقعـه السـاحـر، شهـد ولادة إبداعـات لا حصر لهـا؟"

ثـم أضـاف وهو يشـير إلى زاويـة المقـهى :

"هنـاك، كان محمـد شكري، صاحـب روايـة 'الخـبز الحـافي' يقـضي سـاعـات طويلـة، يستلـهم من أجـواء المكـان لكتـابـاتـه.
وفي ذلك الركـن جلـس 'بـول بولـز'، الـذي ترجـم أعمـال شكري إلى الإنجلـيزية. كمـا أن فرقـة البيتلـز وغـيرها من الفنـانيـن، مـرّوا من هنـا واستلهمـوا من أجـواء المقـهى. 
حتى ونستـون تشرشل زار هذا المكـان."    
 
تـأملـتُ حـديثـه مليّـاً، ثـم همـستُ قـائلـة : 

"ربمـا أكـون أنـا أيضـا جـزءاً من هذا التـاريخ، فأُضيـف إلى رصيده قصصـا جـديدة."

فجـأة، لاحَـت لي ظـلال رفـاق المـاضي متحلقـين حـول طاولـة في الزاويـة المطلـة على الأفـق البحـري اللامتنـاهي، كانـت أصواتـهم تتنـاغـم كالأوتـار، وأحـاديثهم المشبعـة بالفــن والأدب تنسـاب برشاقـة، تـروي قصصـا لا تنتـهي عن مدينـة تتنفس بأرواح ساكنيهـا. 
بعـد أن أبـدَيتُ امتنـاني لِبَّـا عْـرُوبـة على حكاياتـه، تقـدمـتُ نحـوهم بخـطوات متـرددة. عندمـا لمحـوني، ارتسمـتْ على وجـوههم دهـشة اللقــاء المبـاغـت، تبـادلنـا التحـية، وسرعـان مـا اندمجـتُ في تيـار نقـاشـاتهم المتواصلـة، تـارة أضحـك بمـلء القلـب، وتـارة أغـرق في تـأمـلات عمـيقة.

لفّـني سكون اللحـظة، وعينـاي مشدوهتـان برحـاب البحــر. شعـرتُ بيـدٍ دافـئة تُربّـت على كتـفي بِرفـق. استـدرتُ لأجـد صديقــة طفـولتي، 'ثـريـا'، تقـف خلـفي وعلى وجـهها ابتسـامـة تحـمل ذكـريات المـاضي. برفقتهـا ابنهـا حسـام، تتّقـد نظراتـه بفـضول بـريء وحـيويـة لا تهـدأ.

"أوه، ثـريـا ! لـم أكن أتوقـع رؤيتـك هنـا." 

احـتضنتني بحـرارة، ثـم دعـوتهـا للجلـوس معنـا هي وابنهـا. فقـالت مبتسمـةً:

"مـرّ وقـت طويل مـنذ لقـائنـا الأخـير."

رفعـتُ كـوب الشـاي إلى شفـتيَّ، وشعـرت بحـرارتـه تتسلل إلى داخـلي، كأنهـا تعـيدني إلى اللحـظة :
 
" الحـيـاة، يـا عـزيزتي، تأخـذنـا إلى مسـارات مخـتلفـة. لكن، لا شـيء يضـاهي لقــاء الأحــبة."

فيمـا كانت الأحـاديث تنسـاب من حـولي، غمـرني صمـت مفــاجئ، تسـلّل إلى ذهـني ظِـلّ بعــيد، وسـط الضبـاب الـذي يغلّـف بيننـا المسافات، ذلك الحضـور الغـائب الذي صـار فراغـا يتردد صـداه في أعمـاق روحـي. كان ظِـلّ حسـن ...
استبـدّ بي سـؤال يلاحـقني منذ رحيلـه :

"هل سيظل غيـابه سـرّا مستعـصيـا، أم أن الأيـام ستُمـيط اللّثــام لتُفـشي مـا كان خفـيّـاً؟"

أفـاقـتني ثـريـا من شـرودي حـين قـالـت بقلـق :

"فـاطمـة، تبـدين شـاردة، وكأن البحــر قد سـرح بـك إلى مكان بعــيد."

 تسربتْ ابتسـامة شـاحـبة إلى ملامـحي تُـواري خلـفهـا حـزنـا شفـيفـا، وخـرج صـوتي خـافتـا كهمسِ الريـح :

" لا شـيء، مجـرد أفكـار تتلاعـب في رأسـي." 

ردّت قائلـة : " أنـتِ دائمـا تحملـين همـوم العـالم على عـاتقـك. تذكـري، أن الأصدقـاء هنـا للإستمـاع."

قلـت لهـا بنبـرة ملـيئة بالتـردد :
" أنـتِ محـقة، ولكن هل سيغـيّر الحـديث شيئـا؟"

أضـافتْ : "قد لا يغـيّر كل شـيء، ولكن مشاركـة همـومك تخـفف العـبء عن قلـبك."

في تلك الأثنــاء، قـاطعـنـا حسـام بحمـاسـته الطفـولية قـائلا :

"مـامـا، أريـد كيسـاً من الفشـار وأركض بيـن الطـاولات !"

ضحكنـا جمـيعـا على حمـاسـة حسـام، ثـم استمـرت جلستنـا نتبـادل الأحـاديث والذكـريات، ومع كل كلمـة، كـنت أشعـر أن عـبئـا خـفيفـا يـزول عن صـدري.
وجـودهم من حـولي جعـلني أدرك أن الأصدقـاء هم مرسـاة الـروح في بحــر الحـيـاة المتـلاطم.

في تلك اللحـظة، استـأذنـتُ الجمـيع لأمـضي بمفـردي، سـائرة بمحـاذاة السـور الحجـري الـذي يفـصل المقـهى عن البحــر، حـيث لا صوت يعلـو على هـدير المـوج وزعيـق النـوارس. 
توقفـتُ لوهلـة، أتـأمـل الأفـق المغمـور بِلـون الغـروب، وأضـواء السفـن البعـيدة المتلألئـة، والنسيـم البحـري الذي يتراقص بين خصلات شعـري.  

أطبقـتُ جفـنيَّ، وكأنني أترقـب صوتـه وسـط سيمفـونية الريـاح. تذكـرت كلمـاتـه التي كانت تنساب كأنهـا نبـوءة:

"في كل رحـلة أكتشف فيكِ شيئـا جـديدا، وكأنكِ مدينـة لا تنتـهي أسـرارهـا."

تلك الكلمـات أعـادتـني إلى ذكـريات الرحـلات السـابقـة، حـيث كـنت أكتشـف جـوانب جـديدة في نفـسي، ومـع كل اكتشـاف، كانت علاقتنـا تـزداد عمـقـا، وكأننـا نكـتب معــا فصول الروايـة.   

تنفـستُ بعـمق، كأنني أحـتوي فـراغـه في صـدري. ثم استـدرتُ وعـدتُ إلى المقـهى، حـيث ينتظـرني رفـاق الحـديث. لكن، في أعمـاقي، كنتُ أدرك أن ثمـة شيئـا مـا لا يـزال عـالقــا بين البحــر والغـيـاب...

إلى صفـحـة قـادمـة ...

-شلال أوزود-  بلا انقطاع يصب صافيا زلزالا  شلال قطرات تائهة تسعى للملمة رذاذها شلال  مشرعة الأفق تحاكي زخات المطر شلال شافي الغليل يتهاوى في...