الأب هو القدوة والأساس والأولاد يقلدون آبائهم كثيراً بكثير من أمور الحياة وهذا مثل يقرب المعقول من المحسوس.
اب واحد خير من عشرة مربين*
انقطاع أبي عن العمل فاجأنا جميعا. قرر لوحده العزوف عن تجارته وتسيير زراعته. كان في صحة جيدة. سلم ميراثه لأبنائه واتخذ المنزل نزلا لراحته... لا مرض مزمن ولا إعاقة جسدية تمنعه من التحرك. وفي أحد الأيام طلب مني رفقته إلى الضيعة على ظهر الحمار وليس على متن سيارتي. لماذا يا أبي اشتهيت هذه الرحلة بالطريقة السالفة. لأنني أريد أن أضع يدي وقدمي في ساقية ماء الري. يا أبي انتهى زمن السقي بهذه الوسائل. الرشاشات صارت تضخ الماء فلا تعلم هذا يا أبي؟ أننا في عهد اقتصاد الطاقة. ضحك وقال: من قرر هذا؟ المهندسون الذين لا يعرفون هل حبة البطاطا تبقى تحت الأرض إم تتدلى في العرجان؟ همس مستهزأ: سأحفر ساقية واشغل المحرك وأتابع تدفق الماء. وهذا ما فعل حين وصل إلى بئر السانية. وأثناء رحلتنا الممتازة... -رويدا رويدا-... سألني عن حال الضيعة والبقرة التي ماتت والغنم والحصان الذي بعناهم... سكت... وبعد مدة وجيزة عشتها وكأنها قرن. اجتاحه الضحك... والضحك وقال لي أعطني سيجارة... ظننتك ابتعدت عن التدخين... ابتسم وقال... من له أولاد مثلك هل يمتنع على شيء حتى ولو كان مضرا للصحة. وأخذ يردد "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا"، أنكم فتن لي، هل تعرف من أوحى بهذا؟ خرست ولم أرد عليه. ومن أعلى ظهر حماره أخذ يروي قصة خيالية خلتها لا تنسجم مع ما نحن عليه.
في قديم الزمان، في مملكة تُدعى هندستان، كان هناك فارس شجاع اسمه رائد. تربّى على الشرف والولاء، وحلم منذ صغره بأن يكون الحامي الأمين لمملكته. كان الملك بابر يثق به ثقةً عمياء، حتى جعله قائد فرسان الحرس الملكي.
لكن في الظل، كان هناك من يحقد على رائد، وعلى رأسهم صديقه القديم جود، الذي كان يحسد بريقه ومكانته. ومع اشتداد الحروب، دبّ الخوف في قلوب بعض النبلاء، وأرادوا إنقاذ أنفسهم ولو بثمن خيانة رجل نبيل.
دبّر جود مكيدة، وأوهم الملك أن رائد يخطط للانقلاب عليه. كانت الأدلة مزورة، والوشايات تملأ القصر. ولأن الخوف أعمى بصيرة الملك، صدّق الخدعة، وأمر بسجن رائد دون محاكمة.
في ليلة سوداء، قُيِّد رائد بالأغلال، وسُحب عبر الساحة التي طالما سار فوقها مرفوع الرأس. شاهد وجوه من حارب لأجلهم، وقد أعرضت عنه، حتى صديقه جود، الذي وقف متظاهرًا بالحزن.
لكن رائد لم يصرخ، لم يتوسل. بل رفع رأسه بشموخ، وعيناه تلتهبان نيران الكرامة. قال بصوت جهوري أمام الجمع: "الطعنة التي تأتي من الظهر لا تكسرني، بل تكشف لي وجوه من لبسوا أقنعة الوفاء."
نُفي رائد إلى أطراف المملكة، حيث ظن الجميع أنه سيفنى في النسيان. لكنه هناك أعاد بناء نفسه، وجمع حوله من تبقى من الأوفياء. وبعد سنوات، عاد بجيش من الحق، وكشف الخونة، وأعاد للمملكة شرفها المهدور.
أما جود، فوجد نفسه وحيدًا، بعد أن خانه حتى أولئك الذين خان لأجلهم.
وهكذا، خُلّد اسم رائد في أسطورة تُحكى للأجيال: "أن الطعنة لا تميت الفارس، بل تصنع منه معجزة، إذا عرف كيف يتكيف مع النور الملائم."
سكت طويلا ثم ازعجني بصوته الخشن...هل مازال في البئر ماء ؟
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس