✍🏻 فـاطمـة لغبـاري
(في الطريـق إلى "تـانكـا انجـاعـف")
كان المسـاء يُشعـل الأفـق بألـوانـه الأخـيرة حين انحـدرت الحـافلـة متثـاقلـةً على مشـارف أكـاديـر.
هنـاك، في الهـامـش المنـسي من الزمـن، وجـدتُ نفـسي عـالقـة بين محـطتيـن، أستقـصي خـيط الحكايـة المتـواريـة في أعمـق زوايـا الذاكـرة.
عـند منعـطف الطريـق، لاحـت لي استراحـة صغـيرة، مقـهى شـبه مهجـور كأنـه يغفـو على حـافـة النسيـان.
جلسـت أحـتسي مـرارة الانتظـار، وأصغـي لنـداء خـافـت يتسلل من أعمـاقي.
لم تـدم لحـظات التريّـث طويـلا، إذ أقبلـت حـافلـة أخـرى، مثقلـة بغـبـار المسـافـات، كأنها قـادمـة من زمـن بعــيد.
خـطوت نحـوهـا، وتحسست رسـالـة حـسن، تلك التي خـطهـا بمـداد الشـوق، كأنني أستمـد من كلمـاتهـا يقـين المغـامـرة :
"أكـتب إليكِ من تـانكـا انجـاعـف، حيث تنبـت الحكـايـات من بين الصخـور ..."
جلسـت قبـالـة النـافـذة، أراقـب الطريـق المتعـرج، فتسلّلت إلى مسامعـي نغـمـات موسيقـية أمـازيغـية شجـية من مـذيـاع السائـق، تبثّـت دفء الحـنين الغـابـر في أوصـالـي.
كانـت الجـبـال تتسـارع أمـامـي مع كل منعـطف، شـامخـة كأنهـا تعـتصم بأسـرار دهـور خفــية، أودعـهـا الزمـن في تجـاويفـهـا العميقـة.
وعلى سفـوحهـا الوادعـة، تنـاثـرت ظلال شجـر الأركـان وشجـيرات الصبّـار، كأنهـا نقـوش صامـتة تـؤرخ بثبـات الأرض لعـبور العـصور.
دوّى صـوت السـائـق، مبـاغتـا سكون اللحـظة :
"تـركـا انجـاعف ... لّلي بـاغـي ينـزل، يوجّـد راسـو"
انتفـض قلبي كمـن أيقـظتـه الكلمـات من سبـات طويـل.
شـددت على حقـيبتي، وتقـدمت نحـو بـاب الحـافلـة بخـطى حـذرة، كمـن يعـبر ضفـة حلـم لـم ينجـلِ بعــد.
عـند تخـوم دوار "تـركـا انجـاعـف"، المخـبـوء بين مرتفعـات الأطلـس الصغـير، لفحـني نسـيم تعـتِق فيه روائـح الزعـتر والخـزامى، شعـرت كأنني أدلـف إلى عـالـم منسـي :
بسـاتيـن صغـيرة تغـفو تحت عبـاءة الغـبـار،
بيـوت طينيـة تتشـبّث بالأرض بعـنـادٍ صامـت،
ووجـوه تـوارت خلـف ملامحهـا حكمـة الجـبـال.
لـم ألبـث أن وجـدت نفـسي أمـام بيـت صغـير تنبعـث من عـتبتـه رائحـة الخـبز السـاخـن.
استقـبلتني عجـوز أمـازيغـية تُدعـى "لالاّ تيضّـا"، بعـينيـن تشعـان بـدفء غـامـر، وتجـاعـيد وجههـا تحكي فصول حكايـة طويلـة.
قـالت بلهجـة عـذبـة :
– "أزول سـيرم إلّي."
بـادلتهـا التحـية بلكـنة أمـازيغـية مرتجلـة :
– "أزول، تـانمـيرت أخَـالْـتْ، راد زريـغ إيضاد ديـد، إيـس ألاّ مـاكّ نسـاغ؟"
ضحكـتْ وهـزّت رأسهـا بإعجـاب:
– "يـاااه، يـلاه آدام تنـاعـتغ، تبـارك اللّٰـه عليك."
ابتسمـتُ لهـا بحـرارة :
"تـانمّـيرت بـاهـرا، أَخَـالْـتْ."
قـادتنـي عـبر دروب ضيقـة تفـوح برائحـة المـطر القديـم، حتى وصلنـا بيتـا بسيطا يُطـلّ على الـوادي، تحـيطه أشجـار الخـروب والتيـن.
أشـارت بفخـر إلى السقـف المصنـوع من خـشب الأركـان :
– "هـادا تيمـوكرا نْ لجـدودن"
ثم لوّحـت بيدهـا نحـو الداخـل :
"فـوو ميـا، زري داري أتسـوت أتـاي."
في فنـاء مفروش بحصير الـدوم، قدّمـت لي شـايـا أمـازيغـيـا بنعـنـاع بـرّي، كانت رائحـته تنقـلني إلى الحقـول البعـيدة، وتفـتح لي بـاب الألفــة.
تحـت أنـين الأكـواب، أخـذنـا ننسـج خـيوط الحـديث عن مواسـم الـزرع والحصـاد، عن النسـاء اللواتـي يداهـمهن المخـاض في قلـب العـواصف، وعن أعـراس تُزهـر رغـم شـحّ الـزاد.
مع خـيوط المسـاء الأخـيرة، لمحْـنـا ظـلا يقـترب؛ شـاب لفحـته شمـس النهــار، يُدعـى "أمْـنـاي"، وعلى كتفــه بندقـية تنـوء بثقـلهـا. حـيّـانـا بخجـل، وجلـس إلى جـوارنـا.
سـألتْـه "لالاّ تيضّـا" :
"إيـس تُوفِـيت تيغـجدت ليكتجـلا ايكضـام؟"
ضحـك وهو يهـز رأسـه :
"نوفـيت دار إينكران "أمغـنـاس"
وحين غـابـت "لالاّ تيضّـا" في المطبـخ لتحضـير العـشـاء، تبـادلنـا أطراف الحـديث.
سـألـتُه عن حـيـاتـه، فحـدّق في الأرض، وأجـاب بصوت خـافـت :
• "كنحـلم نـوْلّي مهنـدس فـلاحـي فالـدّوّار، حيت دايـز من شعــبة تقـنيـة"
– "التكوين ديالك تقــني ! مـاشي بعــيدة عليك طريـق الهندسـة الفـلاحـية، بـاب الأمـل محلـول قـدامك."
• "كنت كنقـرا فمركـب البسـتنة فآيت ملـول لّي قـريبـة من إيمـوزار، ولكن الطريـق صعـيبة، ومـا عنـديش اللابتـوب، كنقــرا غـير فكُـتب قـديمـة لي كنشـري من السـوق الأسبـوعي."
أبهـرتـني عزيمـته، فسـألتـه بشغـف :
– "وكَظّْـن تقـدر تـوصل للحلـم ديـالك من هنـا؟"
ابتسـم بثقـة وادعـة :
– "الحلـم كيبـقى حـيّ، حتى فالـدُّوار... خـاصو صبـر، ونفـس طويـل بحـال الجـبـل."
لامسـتْ كلمـاتـه وتـرا خفـيـا في داخـلي، وفي لحـظة صمـتٍ، سـألتـه عن الفـرقة الريـاضـية التي ذكـرهـا حـسن، فأجـاب:
– "آه، جـاو مدرّبيـن، دارو نشاطات فالدواويـر للـدراري، وبنينـا معـاهم ملعـب فوق التلّـة، البـارح مشـاو لـدوار آخـر، ولكن غـايرجعـو من بعـد يومـين إن شـاء اللّٰـه."
بعـد أن خفّـت ضوضـاء الـدوار، خرجـت في جـولـة قصيرة، وجلسـتُ تحـت سنديـانـة هرمـة، أصغـي إلى خـرير المـاء المنحـدر من عـيون الجـبل.
لـم تمـضِ لحـظات حتى اقـترب "أمـنـاي"، يحمـل كـتـابـا مهـترئـا، ومذيـاعـا قـديمـا يصدح بـأغـنيـة أمـازيغـية حـزينـة تـروي عن الأرض، والأم، والبـدايـات المتعـبة.
نـاولنـي الكتاب.
تصفحـته بفـضول، وهمـست وأنـا أُمعِـن النـظر في غـلافـه البـاهـت :
"مدخـل الميكنـة الزراعـية"
تـأملـت ملامحـه المتقـدة بحلـم بسـيط، وسـألتـه :
– "وعـلاش بالضبـط هـاد الكتـاب؟ شنـو شـدّك ليه؟"
"حيت فيـه أفكـار جـديدة، كل معلـومة كتقـربني لحلـمي شـوية بشـوية ..."
وأشـار إلى العـنوان بأصبعـه :
"بغـيت نبـدا من الزيـرو ... من المدخـل."
شعـرت أنـه انغـمس في عـوالـم الكتـاب، إذ كانـت كل صفـحـة تنفـتح أمـامـه كنـافـذة جـديدة، تُشْـرع لـه أفـقـا واسعـا من الأمـل، وتُقـرّبـه بخـطى هـادئـة نحـو ذلك الحلـم المعلّـق بين سمـاء بعـيدة وأرض عطشى للمعـرفة.
أيقـظ في داخـلي ذكـرى خـالي رشـيد، يـوم كان يحـمل كتـابـا مثقـلا بالحـواشي ويخـوض معـركة الحـرف والحـرث ليصيـر مهنـدسـا فـلاحـيـا.
واليـوم، الحلـم نفـسه يولـد من جـديد في عيـون "أمـنـاي"، شـاب يقـتفي أثـر الرجـاء بصمـت نـاطـق.
في تلك الليلـة النـديـة، على فـراشٍ بسـيط، أدركـت أننـي لـم آتِ فقط لأتبـع رسـالـة حـبيب، أو ألحـق بفـرقـة ريـاضيـة، بل جـئت ألتـقي بِـأنـاس يزرعون الأمـل كل صبـاح، رغـم النسيـان والعـزلـة.
غفـوتُ على وعــدٍ داخـلي :
أن أعـود يومــا ...
لا لألتقـط ذكـرى عـابـرة من رسـالـة قـديمـة، بـل لأغـرس أمـلا جـديدا في أرض اعـتـادت احـتضـان الأحـلام الصـامـتة.
(ترجـمـة الحـوار الأمـازيغـي)
"أزول سيـرم إلّي."
(مرحبـا بك ابنتـي)
"أزول، تانمـيرت أخـالتْ"
(مرحبـا، شكـرا لك خـالَتي)
"راد زريـغ إيضـاد ديـد، إيـس إلا مـاك نسـاغ؟"
(أرغـب في قضـاء الليلـة هنـا، هل هنـاك مكان للمبيـت؟)
"يـاااه، يـلاه أدام تنـاعتـغ"
(هيـا بنـا لأُريـك المكـان)
"تـانمّـيرت بـاهـرا أخـالتْ"
(شكـرا جـزيلا خـالتي)
–"هـادا تيموكرا نْ لجـدودن"
(هـذا السقـف من بنـاء الأجـداد)
–"فـوو ميـا زري داري أتسـوت أتـاي"
(تفـضلي بالدخـول، لتشـربي الشـاي)
حـوار "لالاّ تيضّـا" مع "أمنـاي" :
– "إيس توفِـيت تيغجـدت ليكتجـلا ايكضـان؟"
(هل عثـرت على العـنزة التي ضلّـت في الحقـول؟)
–"نوفِـيت غ تفـراوين ن أمغنـاس"
(وجـدنـاهـا في حظيـرة أمغنـاس)
"أمغنـاس: اسـم أمـازيغي قديـم يُطلـق على الرجـل."
# تجـدر الإشـارة إلى أن الأمـازيغـية ليست دخـيلة على لسـاني، أكتـب من الذاكـرة لا من الترجمـة، وإن لـم أتقـن نطقـهـا كمـا يليـق، فإني أفهمـهـا بقلـب من تـربـى على صداهـا، فأنـا أمـازيغـية أبـاً عن جـد.