mardi 10 juin 2025

مُنَاجَاةُ كِتَابِ الضَّوْءِ

جمال أسدي

كُنتُ مَنسِيًّا على رَفٍّ عَتِيقٍ،
فِي رُكنٍ مَكسُورٍ مِن زَمنٍ سحيقٍ،
خَذَلَ المَدارِسَ،
وأنكرَ جُدرانَها... والمَصَابِيحَ والفهارس،
وعافَ المَسَارَ، وأَطفَأَ نُجُومَ الطَّرِيقِ.
غَطَّانِي الغُبَارُ من ريحِ الجِبَالْ،
وانطفأت شَمعَتِي في وسط الظِّلالْ،
كما تنطفئُ القُرى كلُّهَا عندَ الغياب،
حينَ تُغلقُ الأبوابُ
على دُعاءٍ بَاتَ مَنسِيًّا فِي الرِّحَالْ.
لكنّي ما خِفتُ جَفْنَ اللَّيَالِي،
كنتُ أؤمنُ أنَّ النُّورَ،
وإن طالَ غِيَابُهُ،
لَا يَنسى مَسَاكِنَ الأيام الخوالي،
وَلَا يَخذلُ النّدّ وَالصَّدِيقَ.

 

كُنتُ أَنْتَظِرُهُ...
ذاكَ الذي سَيَفتَحُنِي كأنَّهُ يُقبِّلُ جُرحًا ليشفى،
ويقرأُ صَمتي كأنّهُ سُورةٌ
نَزلت من قُدْسِ الذكرى 
في ليلةٍ مَاطِرَة،
والرِّيحُ تنشُجُ بينَ زوايا الجُدرانِ الكَسِيرَة،
جاءَ حَكِيم...
رَجُلٌ حفرتِ الوَحدةُ في صَدرِهِ نُدُوبًا عَسِيرَة،
واتخذَ الحنينُ له وطنًا،
فصارَ الغيابُ له شقيقًا... وَسِيرَة.
كانَ لا يُجيدُ القراءة،
لكنَّني أُجيدُ لُغةَ القلوبِ
حينَ تُنادي من حرقةِ الجراح... 
وسرٍ لا يُبَاحَ.
كلماتي لم تَبقَ حُروفًا،
بل صارتْ صُورًا حيَّة،
تنسابُ على عينيهِ
كماءٍ يُداعبُ زهرة
 نديَّة،
فتتشكَّلُ المشاهدُ في ذهنِه
كما يَتَدلّى الحُلمُ من نَجمةٍ خَفية..
فَانْكَمَشَ كَفَرْخِ الطُّيُورِ،
وَطَوَى الأَلَمَ فِي لُبِّ الصُّدُورِ،
كَأَنَّهُ وَجَعٌ قَدِيمٌ... مَدَّ أَحْزَانِي وَآهَاتِي.
كُنْتُ أَبْكِي مَعَهُ فِي صَمْتٍ صَبُورٍ،
لَكِنَّهُ لَمْ يَرَ دُمُوعِي وَسْطَ سَكَراتِي.
تَمَنَّيْتُ لَوْ أَمْسَحُ صَدْرَهُ بِصَفَحَاتِي،
كَمَا تَفْعَلُ الأُمَّهَاتُ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ،
حِينَ تَضَعُ رَاحَةَ القَلْبِ
عَلَى جَبِينِ الغَائِبِ النَّحِيلِ.
صَفْحَةً... صَفْحَة،
نَفَضْتُ الغُبَارَ عَنْ ذَاكِرَةٍ مُسِحَتْ،
وَأَعَدْتُ إِلَيْهِ وُجُوهًا نُسِيَتْ،
وَأَصْوَاتًا تُنَادِيهِ مِنْ زَمَنٍ جَمِيلٍ.

وَقَبْلَ أَنْ أَصِلَ إِلَى آخِرِ صَفْحَةٍ،
كُنتُ قَدْ كَتَبْتُ لَهُ،
 بِنَبْضٍ يَشْتَعِلُ وَقَلَمٍ يَتَفَصَّدُ:
لَمْ يَكُنِ العَدُوُّ وَحْدَهُ مَنْ طَعَنَكَ،
بَلْ إِخْوَتُكَ — وَيَا لَفَجِيعَتِكَ —
 هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّوْا، وَتَفَكَّكُوا، وَتَفَادَوْا وَجْعَكَ.
لَمْ يُسَاعِدُوكَ، لَمْ يَحْمِلُوا مَعَكَ الأَلَمَ،
بَلْ صَفَّقُوا لِلْقَاهِرِ، وَكَأَنَّ الظُّلْمَ عِنْدَهُمْ نِعْمَةٌ،
 وَالْمَقْهُورَ هُوَ مَنْ يَسْتَحِقُّ التُّهْمَةَ 
وَالنَّدَمَ.
قَالُوا: أَنْتَ المُشْكِلَةُ، أَنْتَ سَبَبُ التَّوَتُّرِ،
وَنَسُوا — أَوْ تَنَاسَوْا — أَنَّ الجُرْحَ لا يُلامُ لِأَنَّهُ نَزَفَ،
وَأَنَّ مَنْ صَرَخَ لَمْ يُسَبِّبِ الضَّجِيجَ، 
بَلْ كَشَفَ الصَّمْتَ المُتَعَفِّنَ وَالمُنْهَكَ.
فَكَيْفَ أَشْكُرُ مَنْ خَذَلَنِي؟ 
وَكَيْفَ أَسْكُتُ عَمَّنْ صَفَقَ لِمَنْ سَحَقَنِي؟
كَانُوا عَوْنًا لِمَنْ يَهْدِمُ،
 وَصَدًّا عَمَّنْ يَبْنِي،
ثُمَّ لَوَّثُوا اسْمَكَ بِأَشْوَاكِ الرِّيبةِ،
 وَسَمَّوْا صمودَكَ... فِتْنَةً فِي الدِّيَارِ.
وَفِي آخِرِ صَفْحَةٍ،
كَتَبْتُ لَهُ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهُ مُنْذُ البِدَايَةِ:
"النُّورُ لَا يُعْطِيكَ نَفْسَهُ،
بَلْ يُذَكِّرُكَ بِصَوْتٍ يُشْبِهُ الهَمْسَةَ،
بِأَنَّكَ كُنْتَ يَوْمًا... ضَوْءَ الهِدَايَةِ."
حِينَ أَغْلَقَنِي،
عَرَفْتُ أَنَّ رِسَالَتِي قَدْ تَمَّتْ.
لَمْ يَعُدْ كَمَا كَان،
رَأَى الضَّوْءَ يَتَسَرَّبُ
إِلَى زَوَايَا كَانَ يَظُنُّهَا قَدْ أُغْلِقَتْ.
فِي الصَّبَاحِ،
حَمَلَنِي مَعَهُ لا يخشى النزوح،
وَلَمْ أَكُنْ كِتَابًا...كأني
 صِرْتُ رَفِيقَ الرُوح
رَاح يُحَدِّثُ النَّاسَ عَنِّي،
أَيْنَمَا يَغْدُو وَيَرُوحُ،
وَيَقُولُ: "أَحْيَانًا... يَسْكُنُ النُّورُ
فِي أَكْثَرِ الأَمَاكِنِ ظُلْمَةً؛
فِي وَحْشَةِ القُبُورِ،
أَوْ سِرِّ الصُّدُورِ."

بقلمي الشاعرة عبير ال عبد الله

ظل ابتسامة كل شيء يوحي بالحياة… لكن داخله مدينة فارغة، شوارعها صامتة، ونوافذها مغلقة على أسرار لم تُروَ. يمرّ بين الناس خفيفًا، يسأل عن الجم...