الحلقةالثالثة : بخارى
اليوم الأول: الوصول إلى أرض الأساطير
هبطت الطائرة أخيرًا في مطار سمرقند، ومنها توجهت بالسيارة إلى بخارى. الطريق كان ممتدًا كأنما يشق التاريخ، وعلى جانبيه تمازجت الحداثة مع البساطة الريفية. كانت الشمس تغرب على سهول أوزبكستان، تفرش لونًا نحاسيًا على وجه الأرض. في الطريق، توقفت عند بائع رمان عجوز، ابتسم لي وقال بالعربية المهشمة: "بخارى مدينة العلماء، سترى بعينك." ابتسمت، ولم أكن أعلم حينها أن كل حجر في بخارى يروي حكاية.
اليوم الثاني: ضياع جميل بين الأزقة
سكنت في نُزُل صغير يشبه خانًا قديمًا، سقفه مقوس وزخارفه أندلسية الملامح. خرجت صباحًا أتجول في المدينة القديمة، بدون خريطة. ضعت، نعم، لكن لم أندم لحظة. الأزقة ضيقة، مرصوفة بالحجر، تنبعث منها روائح الخبز الطازج والبهارات، والوجوه فيها خليط بين الترك والفرس والعرب. توقفت أمام مسجد "كاليان"، مئذنته العالية ظلت ترشدني كلما تهت، كما كانت ترشد القوافل قديمًا. وقفت هناك طويلًا، أفكر: كم من الأذان رفرف من هنا عبر القرون؟
اليوم الثالث: بين العلم والتأمل
زرت اليوم مدرسة "مير عرب"، حيث درّس الإمام البخاري والنسفي وغيرهم. دخلت الفناء الهادئ، وجلست على طرف الساحة أتأمل طلبة صغارًا يحفظون القرآن كما حفظه من قبلهم المئات. اقترب مني شيخ بلحية بيضاء، سألني من أين أنا، ولما عرف أنني عربي، قال: "أهلاً بأهل اللسان الذي نقل لنا العلم". جلست معه نصف ساعة، حدثني عن البخاري كما لو كان لا يزال بينهم. شعرت أني أتنفس زمنًا آخر.
اليوم الرابع: وجبة بخارية وحنين لا يُفسَّر
دعاني أحد السكان المحليين إلى العشاء في بيته. كانت المائدة عامرة بـ"البِلوف" (أرز باللحم والجزر)، وخبز التنور الدائري، وشاي أخضر مع النعناع. زوجته العجوز، التي لا تتحدث العربية، وضعت يديها على قلبي وقالت: "قلب عربي طيب، مثل ضيوف زمان." لم أفهم كلامها لكن فهمت الشعور. غريب كيف تجمع المائدة قلوبًا تفصلها آلاف الكيلومترات.
اليوم الخامس: الوداع الذي لم يكتمل
في اليوم الأخير، زرت قبر الإمام البخاري خارج المدينة. كان المكان بسيطًا، تغمره السكينة. قرأت الفاتحة، وجلست على الدكة الخشبية أتأمل في مسيرة رجل حَفِظَ أحاديث النبي فحفظت به الأمة تراثها. تساءلت: ماذا تركنا نحن؟ ما الأثر الذي سنتركه خلفنا؟
عند المغادرة، شعرت أني أترك شيئًا مني خلفي، أو أن بخارى قد أخذت جزءًا من قلبي، ولن تعيده.
لم تكن رحلتي إلى بخارى مجرد سياحة، بل كانت عبورًا نحو الذات، لقاءً مع الجذور، واستيقاظًا لحنينٍ لا أعرف متى ولد، ولا كيف خمد.
الحلقة القادمة سمرقند
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس