تثاقل الزمن على كتفيه المنحنيتين كحمل ثقيل، وحفرت أيامه الطوال أخاديدها الغائرة على وجهه المتشرب بالتجاعيد، التي تراقصها ظلال الألم العتيق. كانت عيناه، كالنجمتين الخافتتين في سماء عتيقة، تطلان بشرود على فراغ متسع. وقد تعانقت يداه المخططتان بعروق متورمة فوق عكازه الخشبي، تشتبكان بتوجس كجذور شجرة عمياء تقاوم العواصف.
تعلقت عيناه بالعكاز، فانطفأت فيهما كل شرارة حاضرة. تجمدت ملامح وجهه وتشددت كالصخر، ثم ارتخت بلطف كأنها تعيش لحظة بعيدة. ارتعشت أصابعه المتشابكة قليلا، ورعشت شفتاه المتقرحتان بابتسامة باهتة، ثم انقبضت في حزن عميق.
في قاع صمته، كانت نظراته تتقلب بين العكاز الملقى ويديه المتعاقدتين. كان العكاز امتدادا لوجع صامت، ورفيقا وحيدا في مواجهة الوهن.
فجأة، ارتخت قبضتاه، وانزلق العكاز إلى الأرض بصوت خافت. لم يتحرك، بل بقيت عيناه مثبتتين على موضعه الفارغ بين يديه. ثم ضم كفيه المجعدتين إلى بعضهما بقوة، كمن يحتضن شيئا ثمينا اختفى.
انفرجت أصابعه قليلا، وتكشف بينها عن عصيا خشبيا دقيقا كان مختبئا بإحكام. لم يكن يعتمد على العكاز الغليظ، بل كانت كفاه هما اللتان تشابكتا وتشكلتا بمهارة لتوهما بسند خارجي. تفرقت الأصابع العجوز ببطء، وتمددت بقوة، كأنها غصون شجرة فتيّة تبسط أغصانها نحو النور. وقد ظهر بينها قلم رفيع، لمع بخفوت كنجم بعيد.
حسين بن قرين درمشاكي
كاتب وقاص ليبي