mardi 2 septembre 2025

«حين يعـيد القـدر كتـابـة المصائـر»✍🏻 فاطمة لغباري

( روايـة مصغّـرة بين الحقـيقة والخيـال)

«حين يعـيد القـدر كتـابـة المصائـر»
✍🏻 فاطمة لغباري

لم يكن غـروب ذلك المسـاء مـألوفـا؛ الأفـق يتشـح بحمـرة داكـنة، وأمـواج كاب سبـارتيل تهـدر كأنهـا تفـشي أسـرار البحـر المخـبوءة. 
عـند حـافـة الجـرف، كنت أقـاوم تيـار الأفكـار التي تتـلاطم في رأسـي، متشـبّثة بمذكـرة وقلـم.
فجـأة، دوت خطوات متثـاقلـة بين الصخـور. التفـتّ، فإذا بامـرأة جـاوزت قطاف العمـر الأول، تحـمل في عينيهـا ثقـل الأسـرار.
خـطَت نحـوي، تـأمـلتني بعـينين غـائـرتين، وهمست :
 — "يبـدو أنکِ كـاتـبة؟"

أجـبتهـا بابتسـامـة حـذرة : 
— "أحـاول أن أكـون."

استقـامت في وقفتهـا، وقـالت بحـزم غـريب :
— مـا سأرويـه لکِ سيغـير فهمـکِ للحـيـاة.

جلست إلى جـانبي، أطلقـت تنهيدة طويلـة، وشـدّت شـالهـا إلى كتفـيها، ثم قـالت :
«اسمـي... فـاطمـة الوهـابي»

نطقـت الاسـم كأنـه مفتـاح صدئ لبـاب قـديم، وفي نبرتـها شـيء من التـوسل. استسلمـتُ لتيـار كلمـاتهـا، يتدفـق كطوفـان يحـمل بين طيـاتـه وجعـا وحـيـاة متـأرجحـة بين العـبودية والانتصـار :
 
ٍنشـأتُ في قلـب الريـف الشمـالي، تحـت سطوة أب قـاهـر وتقـاليد صـارمـة، لم أجـد للخـلاص سبيـلا سـوى الهـروب. 
ساقـني القـدر إلى طنجـة، إلى منـزل فخـم على الطراز الاسبـاني لِبرلمـاني نـافـذ، من عـائلـة الجـوهري. تفحصتْني زوجـته زكـية بنظـرة متعـالية وقـالت بجـفـاء :
— "يمكنکِ البـدء حـالا."

هكذا بـدأتُ حـيـاة جـديدة؛ بيـت فسـيح يفـيض بالثـراء ويجـف من الرحمـة.
ذات ليلـة، داهمـني إبنهـم الأكـبر وهو في حـالـة سكـر، شـدني بعـنف وطرحـني أرضـا. وكل مقـاومـة تبـددت تحت وطـأة قـوتـه الغـاشمـة.
مـرت الأيـام، أثقـلني العـيـاء وتكررت نوبـات القـيء، فأخـذتني زكـية إلى الطبيب، هنـاك اصطدمـت بحقـيقـة صادمـة؛ جـنين ينمـو في أحشـائي، ثمـرة اعـتداء وحـشي. 
عندمـا علمـت زكـية بالأمـر، ارتعـدت من الفضيحـة، فأرسلت ابنهـا خـارج البـلاد بحجـة الدراسـة، وأمـرتني بالإجـهاض.
لكنني قبضتُ على بطـني بشـدة، وصرخـت في وجـههـا بصـوت مكتـوم :

— "هذا الجـنين هو كل مـا تبقـى لي… لن أسمـح لأحـد أن ينتـزع مـنه الحـيـاة."

ثـارت وطردتنـي، فوجدت نفـسي تـائهـة في الشـوارع، أتعـثر بين مقــاهٍ رخـيصة وأرصفـة بـاردة؛ وبعـد أيـام، عـادت تبحـث عـني خـوفـا من الفضيحـة، عندمـا وجـدتني، انتشلـتني من الضيـاع، مـؤكـدة أن أبقـى مخفـية عن أعـين زوجـهـا.
لم يكن أمـامي سـوى الخضـوع لقـرارهـا، فعـدت إلى البيـت، وجـدت نفـسي في غرفـة ضيقـة بجـانب المطبـخ، جـدرانهـا رطبـة وفـراشهـا بـالٍ. 
هنـاك في الزاويـة الهـامشـية وُلـد آدم، ابن الخطيئـة في نظـرهم. كان صوتـه الأول باكـيا كأنـه يعلـن رفـضه للقـدر.
كبر مهمشـا لا يُسمـح لـه بمخـالطة أبنـاء العـائلـة. غير أن سـارة، أصغـر أبنـاء زكـية، كانت تتسلل بخفـة لتمنحـه قطعـة شوكولاته أو دفـتر رسـم ثم تخـتفي. تلك اللمسات الصغـيرة أنقـذته من عـزلة قـاتلـة.

وذات مسـاء، دخـل وهو يحمـل كلبـا هـزيلا بين ذراعـيه، وقـال بعـنـاد طفـولي:
— "مـامـا، هذا صديـقي الجـديد… لن يمنعـني أحـد من اللعـب معـه."

منذ ذلك اليـوم، صـار الكلـب رفيقـه الدائـم يرافقـه في رحـلته اليومـية نحـو المدرسـة، ويتقـاسم معـه كسـرة الخـبز وجـرعـة المــاء. 
مـرت الأعـوام، وكـبر آدم. واجـه السخـرية في المدرسـة، واحتمـل نظرات الاحتقـار، لكنـه ظل صامـدا، حيث واصل الليـل بالنهـار على ضـوء شمعـة، يحـلّ المسـائل ويخـطّ رسومـاتـه. 
تفـوق في دراسـتة، ونـال منحـة في معـهد "كارولنسكا" بالسـويد، ليـواصل حلمـه في دراسـة الطـب رغـم كل الصعـاب.

بلـغ الخـبر زكـية، فصرخـت مذهـولة :
— "أيعـقل؟ ابن الخـادمـة؟"

ابتسمـتُ بمزيج من المـرارة والفخــر :
— نعـم، ثمـرة صمـودي. صـاغـه المصـير بيـديه. 

لكن عجلـة الزمـان دارت، كأنهـا تعـيد رسـم المـوازين؛ انهـارت ثـروة الجـوهري بعـد صفقـات فـاشلـة، وزُجّ بالبرلمـاني في السجـن بتهمـة الاتجـار بالمخـدرات، والابـن الأكـبر الذي عـاش بعـيدا عن الوطن، داهمـه مرض خطيـر في القلـب، ولم يجـد أمـامـه سـوى مستشـفى كارولنسكا لإجـراء عملـية دقيقـة. 
سافـرت زكـية الى ستوكهولم لملاقـاة ابنـها، مثقلـة بالقلـق والدعـاء. غير مدركـة أن القـدر كان يخـبئ لهـا مفـاجـأة أعـظم ...
الجـرّاح المسـؤول عن العملـية لم يكن سـوى البروفيسور آدم الوهـابي. الوجـه الـذي أعـاده الزمـن إليـها في أشـد اللحظات حسمـا، ليقـف أمـامهـا المـاضي والحـاضر في نظـرة واحـدة.

تسارعت أنفاسهـا وهي تقلـد نبـرة زكـية يـوم وقفـت عـند بـاب غـرفـة العملـيات تستجـدي آدم :

— "دكـتور… لا نمـلك مـا يكفـي من التكـاليف."
فابتسـم بثبـات وأجـاب :
— "لا تقلـقي سيـدة زكـية… التكلفـة على حسـابي."

تمـت العملـية بنجـاح، وتسلل شعـاع الحـيـاة من جـديد إلى قلـبهـا.

سكـتت فـاطمـة لحـظة، ثـم أردفـت بصوت مرتجـف :

بعـد أشهـر، عُـرضت ڤـيلا الجـوهري في المـزاد. بلـغ الخـبر مسامع إبنـي، فعـاد إلى المغـرب، وقـف أمـام بوابتـها العـالية كأنها تعـيد إليـه كل تنهيـدة دفنّـاها في تلك الغـرفة الضيقـة. لم يتردد لحـظة، فابتـاعهـا، ثم نـاولـني المفـاتيح قـائلا : 

— "أمـي… دخلـتِ هذا البيـت خـادمـة، واليـوم تدخلـينه سيـدة."

انهـارت بالبكـاء وهي تـواصل حكايتهـا بفخـر عظيـم؛ وكأن الزمـن أعـاد إليـها كرامـتها المنهـوبة بعـد طول اغـتراب :

وفي مساء غير متوقـع، طرقت زكـية بـاب البيـت بصحـبة ابنتـها سـارة. مـا إن لمحـتُها حتى ارتمـت عند قـدمي، قـائلـة :

— "سامحيني يـا فـاطمـة… لم أكن أعـلم أن الأقـدار ستقلـب المـوازين هكذا ..."

أمـا سـارة، فقـد وقفـت مشدوهة، حقـيبتها البيطـرية تتـدلى على كتفـها، وعينـاهـا مسمّـرتـان على آدم. تبـادلا ابتسامـة خجـولة، كأن نـافـذة قـديمـة انفـتحت وخـرج منها ضوء الطفـولة.
اقـترب منـها، فاغـرورقـت عـينـاهـا بالدمـوع، كأنهـا توشـك أن تبـوح بكل مـا خبـأته السنـوات، غـير أنـه تقـدم بخـطوة، أطبـق أنـاملـه برفـق على شفـتيها، وفي عيـنيه كان يلـوح وعـد صامـت بمستقـبل يولـد من رمـاد المـاضي.
سـاد صمـت قصيـر، ثم هـمس :

– سـارة، هل نترك للقـدر أن يمنحـنا فـرصة جـديدة؟

لكن صوت زكـية اخـترق اللحـظة المرتبكة :
– "لا... آن الأوان أن تسمـعا الحقـيقة. 
آدم ... هو ابن أخـيك حسـام يـا سـارة، ابن خطيـئة حـاولت أن أدفـنها ذات يـوم. 
سقطت الكلمـات كالصاعقـة. وارتسـم الذهـول على وجـوهنـا، بقـيت نظرات آدم وسارة معلقـة بين الحنـين والصدمـة.
أمـا أنـا فغطيت وجـهي بكفـي، وأدركـت أن القـدر مهمـا حـاول أن يجـبر الكسـر، يتـرك ندبـة لا تمـحى.
أمـا زكـية فصمتت طويـلا ثم همسـت بمـرارة :

— اعلمـي يـا فـاطمـة أن ابنـك لم يكن يومـا وصمـة عـار، بل أنبـل مـا أنجـبت هذه الـدار. 

توقفـت فـاطمـة عن الكـلام، ومسحـت دمـوعهـا، بينمـا بقـيت نظراتـها معلقـة في الأفـق، كأنـها تخـاطب زمـنـا أبـى أن ينصفـها إلا بعـد أن استنـزف شبـابهـا. 
حينـها أدركـتُ أنني لم أكن أستمـع إلى حكاية خـادمـة فحسب، بل إلى سـيرة امـرأة تحـدّت القهـر، وأنجـبت من رحـم الخطيئـة معـنى جـديدا للكرامـة.