رؤية : د/علوي القاضي.
... في الأجزاء السابقة درسنا بالتحليل والنقد رسالة فيلم (طباخ الريس) للروائي المبدع (يوسف معاطي) وخرجنا بنتائج ودروس لاحصر لها للحكام والمحكومين
... وأهم هذه الدروس أنه ، ماذا لو أن كل طاغية تفقد وتابع بنفسة أحوال رعيته وشاهد معاناة الجماهير في الواقع وتعاون مع حكومته في وضع حلول للتخفيف من تلك المعاناة ، ماذا لو أن كل طاغية تم عزله أو قتله أو طرده أو تهريبه (ماذا لو كان إهتم بشعبه كما يجب ؟!) ، سؤال واقعي وحقيقي (ماذا لو ؟!) ، لم يكن ليحدث ماحدث ، ولا يحصل ما حصل ، ولا كان جرى ما جرى ، كان من الممكن أن نحقن دماء الثوار ، وكل هؤلاء الشهداء ماكان لها أن تموت ، وكل هذه الأحداث ما كانت لتحدث ، وما أعطينا للأصابع الخارجية الفرصة لها أن تلعب وتتدخل في مصير الشعوب ، وكل اللي كان كان هايبقى ماكان
... كل كلامنا السابق كان نقدا للحاكم ، سواء كان فاسدا برغبته ، أو مغررا به من حاشيته ، أو محميا من الخارج ، وهذا لايمنع أن على الشعوب دور كبير جدا وهو مراقبة الحاكم وحاشيته ومحاولة تصحيح الأوضاع ومحاسبة المتورطين
... أما إذا تنازلت الشعوب عن هذا الدور فقد وقعت في مرحلة الإستعباد الطوعي حينئذ قد تنازلت عن حريتها وحقوقها وأعطت الفرصة وأفسحت المجال للحاكم أن يزداد شراسة وطغيانا وجعلت الفساد والمفسدين يستشرون في مفاصل المجتمع
... وأفضل كتاب قرأته يتناول هذه الفكرة باستفاضة هو كتاب (سيكولوجية الجماهير) وقد تناول الكاتب (جوستاف لوبون) هذا الموضوع بالتوضيح والشرح الوافي في كتابه (سيكولوجية الجماهير)
... يقول الكاتب أن الإستعباد الطوعي ينتج من شعوب مستسلمة للظلم والظالمين ، وحينما نبدأ في قراءة كتاب أو نص يتحدث عن الإستعباد الطوعي ، نجد أنفسنا أمام فكرة تنبش في أعماق السلوك البشري ، وهنا يمكن أن نستحضر مايقصده المفكر الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه الشهير (سيكولوجية الجماهير) ، الذي تناول فيه كيف يمكن للجماهير أن تتكيف مع الإستبداد وتتبنى الطغيان طواعية
... (لوبون) يرى أن (الطغيان) لايستمد قوته من (الحاكم) بحد ذاته ، بل من قابلية (الجماهير) للخضوع واستعدادها للتخلي عن التفكير النقدي ، ليصبح الإستبداد حالة إجتماعية مألوفة وهنا يطلق عليه إسم (المواطن القانع)
... قراءة من الكتاب وفقًا لتحليل (جوستاف لوبون) في (سيكولوجيا الجماهير) ، يقول أن الفرد داخل الجماهير يفقد إستقلاله ويصبح أكثر إستعدادًا للتنازل عن حقوقه ، مما يؤدي إلى مايمكن أن نسميه (المواطن القانع) ، هذا المواطن ينحصر في دائرة إهتماماته الضيقة التي تغنيه عن التغيير أو الحرية
... و (المواطن القانع) أو المستقر القابل للعبودية المختارة ، يمكن تلخيص اهتماماته في ثلاث نقاط رئيسية :
★ (الأمان الاقتصادي) فالمواطن القانع لايهتم بحقوقه السياسية أو العدالة الإجتماعية ، فَجُلّ إهتمامه ينصبّ على لقمة العيش التي تضمن بقاءه ، حتى لو كانت حياته فاقدة لأي معنى حقيقي ، المهم بالنسبة له هو الإستمرار ، دون مواجهة النظام القائم
★ (الرياضة) كمهرب نفسي ، كرة القدم أو الرياضة بشكل عام تصبح للمواطن القانع وسيلة للهروب من واقعه يجد فيها عدالة مفقودة في حياته اليومية ، وإنتصارات تعوضه عن الإخفاقات في واقعه الشخصي ، وكل ذلك دون أي مجازفة أو تكلفة حقيقية
★ (الدين) كإطار طقوسي ، فالدين بالنسبة لهذا المواطن ليس وسيلة لإصلاح الواقع أو لتحقيق العدالة ، بل مجرد طقوس تعطي شعوراً بالراحة والطمأنينة ، يكتفي بممارسة الشعائر دون التفكير في جوهرها أو ربطها بالسلوك الأخلاقي والإجتماعي ، المهم بالنسبة له هو الشكل ، لا المضمون
... ويرى (لوبون) أن المواطن القانع هو العقبة الأولى في التغيير ، بل والتغيير يصبح مستحيلاً في وجوده !
... فمن وجهة نظر (جوستاف لوبون) ، أن الجماهير في حالتها المقمعة تصبح العقبة الأكبر أمام التغيير ، هذه النوعية من الجماهير تستسلم للطغيان ولا تقاومه ، بل تساهم في ترسيخه من خلال إما دعم الأنظمة القائمة أو من خلال السلبية تجاهها
... والتغيير لن يتحقق إلا إذا إستعاد الأفراد داخل الجماهير وعيهم النقدي وخرجوا من دائرة السلبية والخضوع
... ربما لم يتخيل (جوستاف لوبون) يوماً وجود شعوب بأكملها تعيش وسط الإستبداد والصراعات ، ومع ذلك تتكيف مع القمع وكأن شيئاً لم يكن