استعارة في الحراسة النظرية
أخذوني قبلَ صحوِ النوافذْ،
أذكرُ: كانتِ الصومعةُ تستعدّ
لاستقبالِ المؤذنِ الضريرْ،
حطام عجوزٍ يرمّمُ جسرَ العبور
نحوَ السماءِ تطوعَ الضرير
ليكونَ حبشيَّ الفجرْ.
لم يبقَ من مزمارهِ
سوى شهقةِ صياحٍ
تليقُ بالسطوح العارية،
عماهُ نعمةٌ لكهّانِ النزوةْ،
عوراتُنا الآن في أمانْ.
أخذوني…
لم يعلن بلالُ الحيِّ بعد
موعدَ إعدامِ الأسرةِ الخاملة.
هديرُ نشوةِ السلطةِ صحا،
صرخوا بلذة في وجهِ البغثةْ.
يختبرُ الهاتفُ اللاسلكي
جرعةَ عمقِ الصدمةِ...
كم يحبون هروبَ يمامِ الروحِ
بصراخ يربك ذهول اللحظةْ!
حشرجةُ الموجاتِ اللاسلكيةِ تنساب
في نزيف جرح الكبرياء،
برقيّاتٌ سريعةٌ، قاسيةٌ،
خليطٌ من الأوامرِ...
خواطرُ بعيدة ترسم خريطة الرهبة،
ينتشي وجهُ الرقابةِ
على كفِّ زعيمِهم الذي قرّر
تفتيشَ خزانةِ الهواجسِ الداخليةْ.
ما زالتْ رطوبةُ الأعينِ عالقةً
في جلدِ ذاكرةِ الخوفِ…
كانوا لا يقلّونَ عن عشرةٍ
يلوّحونَ بالأصفادِ والأضدادْ،
حشرةُ هاتفٍ من طرازٍ غريبٍ
تزيدُ من قسوةِ الاقتحامْ،
لاذَ الصغارُ بغرفةٍ
لم تَعُد منيعة،
لفظت حارسها المتصدئ
تحت مدافع الأقدام.
الشهيد اللحظة مزلاج ومفتاح،
لم يعد يفتح غير ذكرى من حديد،
لم يعُدْ لنا بيتٌ ولا طوقٌ،
ولا جارٌ ولا شاهدٌ محنةً.
حين يضعُ حرسُ الليلِ
عينهم على احتمال الشغف،
يختفي الأصدقاءُ
وتقلُّ الأنباءْ
يعز العزاء وسلام الجيران.
لماذا حلّ هؤلاءُ الأوغادُ
في أحلامِ الأولادْ؟
رعدٌ بلا مطرٍ،
غيرَ بولِ الصغارْ،
هشمَت البابَ الأجزمةِ المتعجرفةِ،
غيّرَ الاقتحام عفويّةَ الزمنِ،
تغيّرَت اللحظةُ فلسفةَ المحنْ.
كانَ يكفي أنْ يطرقوا البابَ،
يمهلوني لحظةَ غيابْ،
حتى أُخففَ صدمةَ العُريْ.
كانَ يكفي أنْ يطلبوني زوالًاْ،
فأحضَرَ قبلَ الفجرِ،
ومعي سيرةُ مواطنٍ
يحترمُ القبّعاتْ،
ويحفظ النشيد الوطني
عن ظهر قلب،
بجميع اللهجات.
كانَ يكفي أنْ يسألوا عنّي
حارسَ الحارةِ ذي السجلِّ الثقيلْ.
أنا مجرّدُ طريد الغواية
لا تطيقهُ حتى كلابُ الزقاقْ.
كثيرًا ما أتبولُ على الأشجارْ
حينَ تخذلني مثانتيْ،
كثيرا ما يلعنني مؤمنٌ الزقاق
حين يسابقُ على كأس الطليعة.
فهو مدمنٌ على الصفِّ الأولِ،
حدَّ رشوة الغفير والطريق.
في صلاةِ الفجرِ الثقيلِ التثاؤبْ،
أرى ظل جاري المؤمن بتاج الصف الأول،
يدسُّ عفن قيء مطبخه،
كيسَ قمامةٍ على الرصيفِ الحائرْ،
ثم يهرول ليعين الإمام على الإقامة.
حينَ ينامُ النصفُ الإلهُ
الذي يخرجُ من عقلي
في النهارْ،
أشاركُ كلاب التيه
الأشجارِ والعجلاتْ.
هلْ في بيتي حزامٌ ناسفٌ؟
هلْ وشى بي تاجرُ مخدّراتٍ
من حزبٍ سياسيٍّ لعينٍ
حتى يأنسَ فسادهُ بصورةٍ
بمشهدِ شاعرٍ من زمنِ النضالْ،
فيستوي العيبُ والشهد،
ويهون الاتهام الغرير.
بعضُ الشعراءِ يخطبونَ
في المهرجاناتِ الانتخابيةْ،
ليشعرَ تاجرُ الأزماتِ
أنّ الثقافةَ لا تصنعُ الزعماءْ،
ليطمئن كبرياؤه العليل.
لا أعرفْ سرّ هذا النزعِ
نزعا من سريرٍ هربَ منّي،
حين لمحت وسادتي
ظل مسدس متجهم الجراب.
الطريقُ المألوفْ أدار وجههُ،
كأنّه يهابُ أنْ يأتي ذكْر اسمه
في محضرِ التحقيقْ والتنفيب،
تظاهر أنّه لا يعرفني...
نظرَ بعيدًا،
حيثُ عاملاتُ القهرِ يختبئنَ
في فواتيرِ الوطنْ،
من فراغِ حقيبةِ التجميلْ.
هلْ وجدوا في سيرتي فتوى جهادٍ
مؤوَّلةَ اللغةْ؟
لكني لا أصلّي إلّا مضطرًّا
في جنازةٍ قريب وعند المرضِ،
وعندالخوفِ من قيامةٍ منذرة،
تنبأت بها رؤيا مؤوّلةٍ
من نبعِ الخوفِ الدفينْ.
فالأحلامُ تفضحُ ما نخفيه
عن عيونِ حرّاسِ الحكمةْ.
الصومُ عندي مصيبةٌ،
سنوِيّةٌ، لكنّي مؤمنٌ،
أتا كسولُ الشعائرْ لا غير،
لا أصومُ غيرَ رمضانْ،
مثقلًا بالاكتئابِ والخرابْ،
حينْ تسافرُ الحاناتُ
في دوراتِ العقيدةْ،
أفقد بوصلة النهارْ،
وتضطرب خريطتي اليومية،
فأنا مدخّنٌ حتى اختناقِ النوافذْ.
لن أكونَ إذًا متّهمًا
بفائضِ العبادة،
هم يعلمون أنّي سكيرٌ،
لا أفتي إلّا في الاشتباكِ اللّغويّ
في جبهةِ البلاغةِ والقصيدْ.
أخبارُ الساقي وماسحِ الأحذيةِ
تشهدُ أني مجرّدُ عابرٍ
في أكثرَ من حانةٍ.
لا تشعرُ بوجودهِ
حتى مرمّماتُ النزواتْ،
لأنّني بخيلُ الرغباتْ والعطاء.
ولولتِ زوجتي ولطمتْ
خرّبتْ عشرينَ سنةً
من سرِّيّةِ العواطفْ والمعاطف،
لم أعُد أعرفُ المرأةَ
التي نامتْ في سريري،
كلَّ هذا الزمنْ.
حماتي عرّتْ شعر رأسها القرنفلي،
تبرّأتْ من سهري وكرمي،
تنبّأتْ أكثر من مرة
بهذا اليومِ العصيبِ،
هكذا ردّدتْ:
"مصيرك هو الحبسْ يا شؤم ابنتي..!"
لا أعرف لما أتحمل هذه العجوز
كل شيء عندها قبة وبخور وجبة.
ولأني لا أنتمي لقطيعِ العائلةْ،
كنت الصهر الذي غير معنى القيادة.
لا أعرفُ، لحدّ الساعة،
لِمَا تخلّصتْ زوجتي سريعًا
من جُعاتي في الثلاجة،
وقنينةِ نبيذٍ بين الملابسْ.
لِمَا تبرّأتْ من حاناتي
ومن دفترِ شيكاتي.
لا أعرفْ لِمَا تبرّأتْ من كلّ شيءٍ
سوى من سوءِ الفهمِ المزمنْ،
مع جارةٍ أرملةٍ
تدسُّ عاشقًا في قميصِ الليلْ.
ماذا فعلتُ؟
هل أنا مطلوبٌ لأمريكا؟
هل لأني حين قُصفتْ فارسْ
كتبتُ تدوينةً على مشربِ حانةٍ،
خمّارةٍ من جيلٍ عتيقٍ
تقاومُ فسحاتِ البحرْ،
حتى تبقى.
كتبت:
"سقطتِ الأممُ المتحدةْ...
تلكَ كانتْ تدوينتي اللعينةْ!"
هل الأمر خطير؟
أم منسوبُ التوحّشِ ارتفع؟
حين بالغتُ في تدوينةٍ أخرى،
أعمقَ شؤمًا دبّجتُ أيضًا:
"اليومَ قُصفتْ طهران...
لا ميثاقَ بعد اليوم للسّلمِ والسيادةْ،
غيرَ قوّةٍ غاشمةٍ تخترقُ الأجواءْ،
تسمّي الاعتداءَ قبة من حديد
تحمي العالمَ من أصابعِ الزوالْ."
عُدتُ عندَ المساءِ إلى حضنِ امرأةٍ،
بدّدتْ كيسَ الثمالةْ،
كان عليّ فقط أن أشرحَ للمحققينْ
سطرًا شعريًا عارِي الشبهة،
يؤلّبُ الصخرَ على موجِ البحرْ،
يُغري العاصفةَ بوَهْنِ الشراعْ.
هربتُ من أصابع الرقابة
بوجهِ الاستعارةِ نحو فلسطينْ،
قميصِ منفى الشعراءِ في شتاءِ العبارةْ،
اختبأتُ في نخيلِ الخليلِ،
وبينَ شهداءِ غزةِ
وقصصِ الجليلِ الحزينةْ.
عدتُ بما تبقّى من كبريائيْ،
أفتّشُ عن دكّانٍ يبيعُ الخمرَ،
لشاعرٍ فقدَ تَوًّا كرامةَ التأويلْ.