بقلم: فُؤَاد زَادِيكِى
فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ وَ تَعَاظَمَتْ نِيرَانُ الحُرُوبِ، يُثِيرُ العَجَبَ أَنْ يُصِرَّ الإِنسَانُ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقٍ مَفْرُوشٍ بِالدَّمَارِ وَ الخَرَابِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ مَآسِي المَاضِي. فَمَا السَّبَبُ فِي جُنُونِ الحَرْبِ؟ وَ مَا الَّذِي يَدْفَعُ النَّاسَ لِلسَّيْرِ فِي دُرُوبٍ تَسْحَقُ الإِنسَانَ وَ تُدَمِّرُ العُمْرَ وَ الوَطَنَ؟
إِنَّ الحَرْبَ لَا تَخْرُجُ إِلَّا مِنْ رَحِمِ الجُنُونِ. هِيَ خُطْوَةٌ كُبْرَى نَحْوَ الفَنَاءِ، لَا تَزْرَعُ سِوَى الكُرْهِ وَ الحِقْدِ وَ الفَقْرِ. تَشْرَبُ الأَرْضُ الدِّمَاءَ، وَ يَتَمَزَّقُ الجَسَدُ البَشَرِيُّ فِي خَنَادِقِ لا تَعْرِفُ الرَّحْمَةَ.
وَ إِذَا نَظَرْنَا فِي دَوَاعِي الحُرُوبِ، وَجَدْنَا أَنَّهَا تَنْبُعُ مِنْ نَزَوَاتٍ شَاذَّةٍ: كَالشُّعُورِ بِالتَّفَوُّقِ العِرْقِيِّ، وَ الرَّغْبَةِ فِي السَّيْطَرَةِ وَ السَّيَادَةِ، وَ جَمْعِ الثَّرْوَاتِ عَلَى أَكْتَافِ الضُّعَفَاءِ. يَتَخَيَّلُ الطُّغَاةُ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ، وَ أَنَّ العَالَمَ سَيَخْضَعُ لَهُمْ، وَ يَنْسَوْنَ أَنَّ سُنَّةَ التَّارِيخِ لَا تُبْقِي مَلِكاً وَ لَا سُلْطَاناً.
هَذَا الجُنُونُ يَدُلُّ عَلَى فَقْدَانِ الإِنسَانِ لِتَوَازُنِهِ العَقْلِيِّ وَ الطَّبِيعِيِّ. فَقَدْ تَغَلَّبَ فِيهِ الغَرِيزِيُّ عَلَى العَاقِلِ، وَ صَارَتِ القِيمُ الإِنسَانِيَّةُ تُسْحَقُ أَمَامَ أَحْلَامِ الكِبْرِيَاءِ وَ العَظَمَةِ المُزَيَّفَةِ. فَكَمْ مِنْ حُرُوبٍ قَامَتْ بِاسْمِ الدِّينِ، وَ هِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهُ، وَ كَمْ مِنْ دِمَاءٍ سَالَتْ بِحُجَّةِ الحِفَاظِ عَلَى الأَمْنِ أَوِ الحُرِّيَّةِ، وَ الْحَقِيقَةُ أَنَّهَا لِغَرَضِ السَّيْطَرَةِ وَ النَّهْبِ.
وَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَكُونُ الشَّعْبُ البَسِيطُ هُوَ الضَّحِيَّةَ. يُقْتَلُ الأَبْرِيَاءُ، وَ تُهَدَّمُ المَنَازِلُ، وَ تَتَشَرَّدُ العَائِلَاتُ، وَ تَتَفَتَّتُ الأَحْلَامُ كَزُجَاجٍ مَكْسُورٍ تَذْرُوهُ رِيَاحُ الحَسْرَةِ.
وَ لَكِنْ، رُغْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ، لَا يَزَالُ البَعْضُ يُمَجِّدُونَ الحَرْبَ وَ يَسْعَوْنَ نَحْوَهَا، كَأَنَّهَا مَسْرَحٌ لِعَرْضِ قُوَّتِهِمْ. أَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ القُوَّةَ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ فِي الحِفَاظِ عَلَى السَّلَامِ، وَ صَوْنِ الحَيَاةِ، وَ نَشْرِ المَحَبَّةِ؟
إِنَّ الحَرْبَ تَقْتُلُ رُوحَ السَّلَامِ، وَ تُفْسِدُ الإِنسَانَ مَنْ دَاخِلِهِ. لِذَلِكَ، يَجِبُ عَلَيْنَا كَإِنسَانِيَّةٍ أَنْ نُعِيدَ النَّظَرَ فِي طُرُقِنَا، وَ نُحَارِبَ أَسْبَابَ الجُنُونِ، لَا أَنْ نُغَذِّيهَا. وَ إِلَّا، فَسَنَصِلُ إِلَى يَوْمٍ لَا يَتَبَقَّى فِيهِ إِلَّا الرَّمَادُ.
فَلْنَخْتَرِ السَّلَامَ، قَبْلَ أَنْ يُجْبِرَنَا الجُنُونُ عَلَى رُكُوبِ نَارٍ لَا تُبْقِي وَ لَا تَذَرُ