samedi 16 août 2025

✍🏻 فاطمة لغباري

(قصة قصيرة مستوحاة من أحداث حقيقية)

«حين تتجـلى الحيـاة بابتسـامـة أو دمعـة»
ضمن سلسلة : تـأمـلات من دفـتر الحـيـاة.

✍🏻 فاطمة لغباري

يقـال إن القلـب إذا انكسـر مـرتيـن، يغـدو هشـا، غـير أن دفقـة حـب صادقـة كفـيلة بأن تبعـث فـيه الحـيـاة.

حسـام، رجـل في عقـده الخـامس، حمـل في قلبـه ندوب الخيبـات المتعـاقبة، كل واحـدة أثقلـت روحـه أكـثر من سابقتهـا.

بـدأت حكايتـه حين صادف في الربـاط امـرأة تُدعـى بشـرى، مقـيمة في بلجيكا. انجـذب كل منهمـا إلى الآخـر كأنهما يعـرفـان بعضهما منذ زمـن بعــيد، وتـوّج حـبهمـا بزواج قصيـر العــمر. 
بـدا الأمـر كأنـه حلـم سريـع الإزهـار ... رسـائل إلكـترونية تعـبر البحـار، لقـاءات قصيـرة، وأحـلام مشتـركـة لا تنتـهي.

لكن الحلـم انكسـر بـاكـرا؛ خـلافـات حـادة أدت إلى طـلاق بـارد، وعـودة بشـرى إلى بلجيكـا، حـاملـة في أحـشائهـا ابنتهمـا الأولى 'نـوران'. 
بقـي حسـام وحـيدا، يحمـل معه اسمـا صغـيرا مكتوبـا على شهـادة المـيلاد، وذكـرى حلـم لم يكتمـل.

مـرّت الأعـوام مثقـلة بالوحـدة، حتى جـاء ذلك اللـيل الذي أضـاءه وميض شاشـة هاتفـه، وكأن القـدر يطرق نـافـذتـه من جـديد. 
كانت حـنـان، تطـل عليـه من الصـور والرسـائل. 
هيـام افتـراضي تحـول إلى لقــاء فعـلي، ثم إلى زواج واستقـرار في الدار البيضـاء. رزق بابنتـه الثـانيـة 'سـارة'، تلك الصغـيرة التي أعـادتـه إلى الحـيـاة من جـديد.

لكن سرعـان مـا كشفـت لـه الأيـام وجههـا الآخـر؛ بـرود متعمـد وخـيـانـة أحـرقـت مـا تبـقى من المـودة، حتى انهـارت آخـر دفـاعـاتـه. وبينمـا كان يقـاوم الانهيـار، وجـد نفـسه أمـام دعـوى طـلاق رفعـتهـا هي، وأُوصدت أمـامـه أبـواب رؤيـة ابنـته. 
عـاد إلى أكـاديـر، يجـتـاز خـيبـة ثقـيلـة، وكانت رحـلاتـه إلى الدار البيضاء محـاولات يـائسـة للقــاء سـارة ولو من خلـف الأبـواب. الصغـيرة كانت تتشـبث بـه، لكـنه ظل عـاجـزا عن عـبور جـدار المـنع الذي شيـدتـه أمـهـا.

الخـذلان فـتح لـه أبـواب الإدمـان ... الحـانـات، الكحـول، السجـائر ... حتى وقـع في فـخ الشيكـات بدون رصيـد.
انتهـى بـه المطـاف في سجـن آيت ملـول لِعـامين، حيث تسـاوى الليـل بالنهـار، ولم يبـق لـه سـوى صـورة ابنتـه تكـبر في الغـيـاب، وصوت القفـل الحـديدي يطـرق قلـبه كل صبـاح.

بعد الإفـراج، خـرج محطّمـا، والأمـل شبـه مـيت. علـم أن طليقـته قد غـادرت إلى فرنسـا، وأخـذت معها سـارة، فصار الحـنين جـرحـا يفـوقه كل يـوم.

في ذلك الفـراغ الثقـيل، ظهرت ليـلى، امـرأة أربعـينية مطلقـة، تعـرّف إليهـا عـبر الفيسـبوك. لم تكن كغـيرها؛ نبرتـها هـادئـة وكلمـاتهـا كانت بلسمـا لجـروحـه، نمّـت بينهما مـودة حـانية. أعـادته إلى دائـرة الأمـان التي افتقـدها طويـلا ...
بـدا معها كطفـل كبيـر، يضحك من دعـابتهـا، أخـذت بيـده خـارج العـزلة، وأظهرت لـه أن الحـب ليس وهمـا دائمـا، وأن الحـيـاة ليست كلهـا خسـارات.

حتى جـاء ذلك المسـاء ... 
كان مستلقيـا على سـريره، يحـدق في سقـف الغـرفة، وفجـأة، دوّى الهاتـف في صمـته:

— ألـووو؟ مـن؟
— بـابـا…
— مـن؟!
— أنـا، سـارة… ابنتـك.

ارتجـف جسـده، وكأن كل سنـوات الغيـاب تنهـار بين يديـه :

— سـارة … أأنتِ حقـا؟
— نعـم، بـابـا … لم أستـطع الانتظـار أكـثر، جـئت لأراك.

كانت في ربيعـها السادس عشـر، وقد حـددت موعـدا في الدار البيضـاء. صـار الطريـق بين أكـادير وهنـاك أقصـر من دقـات قلـبه، كمـن يركض نحـو الشمـس بعـد ليـل طويـل.

في «محـطة المسافـرين»، وسط الزحـام وصخـب الركـاب، لم يبـق حسـام يسمـع شيئـا إلا دقـات قلـبه. هنـاک بين الحشـود، لمـح سـارة تقـترب نحـوه، تلقـفهـا بذراعـين مرتجفـتين، واحـتواها بحـنان شـديد، فاستعـاد كل اللحـظات الضائعـة في ثـانيـة واحـدة : 

— كـبرتِ يـا صغـيرتي … لم أصدق أن أراك بعـد كل هذا الغيـاب.

ابتسمـت ودمـوعهـا تختلط مع ضحكتهـا الخجـولة :
— وأنت يـا بـابـا… لم تتغـير في عـينيّ أبـدا.

جلسـا على مقعـد جـانبـي، صامـتين، وكأن السنـوات الضائعـة تمـر بين عينيهمـا في لحظـة واحـدة. 
لم يكن يصدق أنـه يمسـك يـد الصغـيرة التي كان يداعـبها في المهـد ذات يـوم ...

شـد على يديهـا قائـلا :
— سـامحـيني يـا بنيّـتي، كنت أود أن أكون معك دومـا، لكن الظـروف كانت أقـوى مني.

— لم تغـب عـني يومـا… كنت دائمـا في قلـبي. 

— هذه المـرة لن يفرقنـا شيء، مهما بعـدت المسافات أو طال الغيـاب.

انسكبت دموعـه على وجـنتيهـا، وتحـول الفقـد الطويـل إلى ميـلاد جـديد.

سـارة أعـادتـه إلى الحـيـاة، وليـلى أبقـته حيّـا حتى يراهـا.

في الحـيـاة، ليست كل القصص تبـدأ بالحـب، ولا كل الخيبـات نهـاية. 
أحـيانا تشرق الفـرص الجـديدة كمـا يبـزغ الفجـر بعد ليلـة ظلمـاء، وتعـيد تشكيل القلـب على هيئـة ابتسامـة أو دمعـة.

✍🏻 فاطمة لغباري

(قصة قصيرة مستوحاة من أحداث حقيقية) «حين تتجـلى الحيـاة بابتسـامـة أو دمعـة» ضمن سلسلة : تـأمـلات من دفـتر الحـيـاة. ✍🏻 فاطمة لغباري ...