lundi 25 août 2025

حسين بن قرين درمشاكي

ق.ق.ج/أطلس العظام

كان الشارع عارياً. لا ضوءَ، لا صوتَ. وحدها خطواتُ حذاءٍ خشبيٍّ قديمٍ تخدشُ الصمتَ، وتُرددُ صداها في أروقة الجوع. يلتصق الرجلُ بالجدار، يتقدم ببطء، كأنه ظل يلاحق شبح الحياة. كان يحمل بين ذراعيه ما تبقى من طفل؛ طفل لم يعرف من العالم سوى وجه الجوع، وخطوط عظام بارزة كأنها خريطة لطريق لا عودة منه.
لم يكن هناك حمل، بل خفة تخيف. كانت يداه تلامسان فراغاً يكاد يبتلعه. وفجأةً، توقف. لم يقطع الجدار، بل كانت يداه، لا حذاؤه، هي التي لامست نقطة النهاية. كان هناك ضوء خافت يأتي من غرفة صغيرة، ضوء لم يكن كافيا لإضاءة ظلمة الشارع، لكنه كان كافيا ليرى ما لم يستطع رؤيته في العتمة.
في الغرفة، كانت امرأة تحتضن شيئا. كان وجهها غائباً، لا يظهر منه سوى عينيها الغائرتين. كانت تنظر إلى الفراغ، وإلى لا شيء. كان الشيء الذي تحتضنه يشبه إلى حد ما ما يحمله هو. كان جسدا نحيلا، لا يبقي له من الحياة إلا هيكل عظمي. كان كل منهما يحمل الآخر.
كانت المفارقة تشبه لكمة في بطن الزمن. الرجل يتقدم، والمرأة تنتظر. الرجل يحمل ماضيه، والمرأة تستقبل مستقبلها. كان كل منهما يشاهد في الآخر ماضياً ومستقبلاً يكاد يكون واحدا.
لم يتقدم الرجل خطوة أخرى. كانت يداه ترتعشان، وارتفعت شفتاه، وكأنهما تحاولان أن تنطقا بكلمة. لكن الهواء لم يجد ما ينطق به. في تلك اللحظة، انطفأ الضوء في الغرفة، وصار كل شيء صمتا. لم يكن هناك سوى خطوات حذاء خشبي تعود أدراجها في الظلام.

حسين بن قرين درمشاكي
كاتب وقاص ليبي

«حين يتريّث الزمـن»✍ الأستاذة 🏻 فاطمة لغباري

ج: 25 من رواية : «صفحـة من دفـتر قـديم» «حين يتريّث الزمـن» ✍🏻 فاطمة لغباري (الفـصل 2 : مـا تخفـيه الريـاح) في تلك الليلة، تجلى المشهـد وكأ...