نص بقلم : د.عبدالرحيم جاموس / تعليق وتحليل الشاعر والناقد الأستاذ عادل جوده قراءة أدبية رائعة ومؤثرة. له كل التحية والتقدير والاحترام والمحبة والشكر الجزيل.
في البدءِ كان الليلُ...
أثقلَ من الليل،
والأرضُ مسوّرةً بالنار،
سماءٌ تمطرُ قذائفَ ...
لا غيوماً،
وزمنٌ يتشظّى ...
تحت أقدامِ الجنود ...
كزجاجٍ مهشَّمٍ في مأتمٍ جماعي....
***
هكذا انفتحَ بابُ الجحيمِ علينا،
حيثُ تُقاسُ الأيامُ بعددِ الشهداء،
والأحلامُ بعددِ البيوتِ المهدومة،
والصمتُ الدوليُّ بعددِ الخيانات....
***
من يعيدُ للقتلى أصواتَهم ...؟
من يغسلُ دموعَ الأمهات...؟
من يرممُ ذاكرةً سُحقتْ ...
تحت الأنقاض...؟
***
الحربُ ذئبٌ جائع،
والعدوانُ وحشٌ ...
يلتهمُ القانونَ الإنساني ...
كما تلتهمُ النارُ أوراقَ الخريف....!
كلُّ شيءٍ هنا يُذبح:
الحجرُ،
الشجرُ،
الماءُ،
والوقتُ المصلوبُ ...
على جدارِ الانتظار....!
***
أيُّ اتفاقٍ بعد هذا الرماد ...؟
أيُّ توقيعٍ يعيدُ للياسمينِ عطرَه،
وللطفلِ لعبتَه المدفونةَ معه في القبر ...؟
***
بئسَ عالمٌ يغسلُ يديه من دمنا ...
ببياناتٍ باردة،
يُكلّلُ القاتلَ بالنياشين،
ويتركُ الضحيةَ وحيدةً ...
إلا من صبرها ودمها....
***
ومع ذلك،
من الركامِ تنبتُ زهرة،
ومن المقابرِ يعلو نشيد،
ومن الجراحِ يخرجُ جيلٌ ...
يحملُ مشاعلَ النهار....
***
غزةُ لا تموت،
فلسطينُ لا تُمحى،
والضحيةُ لا توقّعُ وثيقةَ استسلام،
بل وثيقةَ مقاضاةٍ ومحاسبة ...
للقاتلِ والجلادِ ...
ومن صفّقوا للذبحِ ..
في خندقِ التواطؤ....
***
الحربُ تسحقُ الجسدَ لا الروح،
والدمارُ يبتلعُ البيوتَ لا الذاكرة،
وغزةُ رغمَ الفقدِ والتضحيات ....
تبقى الحقيقةَ الناهضةَ من الرماد،
تُعلِّمُ الكونَ ..
أنَّ الدمَ لا يُساوَم،
وأنَّ الحقَّ لا يموت....
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض / الاربعاء
20/8/2025
صباح الخير دكتور
هذه قراءة أدبية وتحليل للنص الشعري المقتدر الذي شاركته:
عنوان النص: "جدارية على رماد الحرب" - والإيحاء قوي باللوحة الجدارية (الفريسكو) التي ترسم على الجدران غالباً لتحكي قصة أو تخليد ذكرى.
هنا الجدارية ترسم على "رماد الحرب" مما يخلق تناقضاً صارخاً بين فعل الخلق والجمال (الجدارية) وفعل الدمار والموت (الرماد).
هو نص تأبيني ونضالي في آن واحد.
تحليل النص: المضامين والصور الفنية
١ - صورة الحرب كجحيم مطلق:
يبدأ النص بتصوير قاتم ومكثف للحربمستخدما (مفارقات) قوية:
• "في البدءِ كان الليلُ... أثقلَ من الليل":
إعادة تعريف للبداية ليست بداية خلق بل بداية فناء. الليل الثقيل هو استعارة للظلم والجهل والموت.
• "سماءٌ تمطرُ قذائفَ ... لا غيوماً":
قلب لعناصر الحياة (المطر الذي يحيي الأرض) إلى عنصر موت.
• "زمنٌ يتشظّى ... كزجاجٍ مهشَّمٍ في مأتمٍ جماعي": واحدة من أبلغ الصور الزمن وهو مفهوم مجرد يُصوَّر كجسد مادي يتكسر مما يعكس انهيار العالم بكامله وليس فقط الدمار المادي.
٢ - قياس المعاناة بوحدات القهر:
يقدم الشاعر معادلة مروعة للحياة تحت الحرب:
√ الأيام بعدد الشهداء.
√الأحلام بعدد البيوت المهدومة.
√ الصمت الدولي بعدد الخيانات.
هذه المعادلات تحول المعاناة الإنسانية إلى أرقام وإحصاءات مأساويةوهي سخرية مريرة من كيفية تحويل الألم البشري إلى بيانات.
٣ - الأسئلة البلاغية والمناجاة:
فقرة الأسئلة"من يعيدُ للقتلى أصواتَهم ...؟..." هي صرخة وجودية ضد العجز والفقدان.
إنها أسئلة لا تنتظر إجابة بل تهدف إلى تضخيم حجم المأساة وإلقاء المسؤولية على الضمير العالمي.
٤ - تجسيد الشر: يُصوَّر العدوان على أنه قوة طبيعية همجية متوحشة:
∆ "الحربُ ذئبٌ جائع": قوة طبيعية لا تعقل.
∆ "يالتهمُ القانونَ الإنساني ... كما تلتهمُ النارُ أوراقَ الخريف":
صورة قوية تُظهر كيف أن مبادئ البشرية وهشاشتها تُداس وتُحرق بسهولة وبلا اكتراث.
∆"كلُّ شيءٍ هنا يُذبح: الحجرُ، الشجرُ، الماءُ...": توسيع لدائرة القتل لتشمل الطبيعة نفسها مما يعني أن الشر هنا لا يستثني شيئاً.
٥ - سخرية مرة من "السلام" الزائف: "أيُّ اتفاقٍ بعد هذا الرماد ...؟
"– الاستفهام هنا استنكاري. كيف يمكن التفاوض على السلام عندما تكون الأرض قد تحولت إلى رماد ودفنت معها الطفولة (اللعبة المدفونة مع الطفل في القبر) وكل معاني الجمال (عطر الياسمين)؟
إنه رفض قاطع لأي تسوية لا تقوم على تحقيق
العدالة الكاملة.
٦ - إدانة المجتمع الدولي: الاتهام مباشر وصريح:"بئسَ عالمٌ يغسلُ يديه من دمنا ... ببياناتٍ باردة".
تصوير المجتمع الدولي كشاهد متواطئ بل ومكرم للقاتل "يُكلّلُ القاتلَ بالنياشين" بينما تُترك الضحية وحيدة مع ألمها.
"خندق التواطؤ" هو التعبير الأكثر دقة عن هذا الموقف.
٧ - من الرماد تنبت الحياة:
التحول من المرثية إلى النشيد:
هنا قلب النص من حالة اليأس إلى الأملمن الموت إلى الحياة.
هذا هو جوهر الرسالة النضالية:
^ "من الركامِ تنبتُ زهرة":
استعارة جميلة عن الصمود والحياة التي لا تقهر.
^ "من الجراحِ يخرجُ جيلٌ ... يحملُ مشاعلَ النهار": الجيل الجديد هو نتاج هذه المعاناة يحمل دروسها ويكون مشعل التحرير.
^"وثيقةَ مقاضاةٍ ومحاسبة":
هو الرد على "وثيقة استسلام"
إنه تحويل موقع الضحية من خانة المستسلم إلى خانة القاضي والمطالب بالحق.
٨ - الخاتمة:
تأكيد الخلود:
النهاية حاسمة ومطلقة:
-- "غزةُ لا تموت، فلسطينُ لا تُمحى":
تأكيد على الخلود والاستمرارية رغم كل محاولات الإبادة.
--"الحربُ تسحقُ الجسدَ لا الروح":
فصل بين المصير المادي والمعنوي.
الروح (الإرادة، الهوية، الحق) لا تُقهر.
-- "الدمَ لا يُساوَم" "الحقَّ لا يموت":
هذان الشطران هما خلاصة القصيدة وفلسفتها الكاملة.
إنه رفض لأي مساومة على الدماء والتضحيات وتأكيد على أن الحقائق الأخلاقية خالدة.
الخصائص الأسلوبية:
• اللغة:
عربية فصحى قوية بليغة ومحكمة.
• الإيقاع:
إيقاع موسيقي داخلي قوي ناتج عن استخدام السجع غير المتكلف (الشهداء/المهدومة/الخيانات) والجناس (يعلو نشيد/يخرج جيل)، مما يعطي النص طابعاً مرثائياً يشبه المراثي العربية القديمة.
• الصور الفنية:
غنية مبتكرة وذات دلالة عميقة (الزمن المتشظي الوقت المصلوب الزهرة النابتة من الركام).
• البنية:
تبدأ بالقاع (الجحيم الليل) لتنتهي بالذروة (النهار المشاعل النصر).
بناء درامي متماسك.
الخلاصة:
هذا نص أدبي رفيع المستوى هو أقرب إلى "قصيدة نثر" ملحمية.
إنه ليس مجرد وصف للحرب بل هو تأمل فلسفي عميق في معنى العدوان والصمود والموت والحياة والخيانة والعدالة.
النص يحمل روح المقاومة ويجسد الإرادة التي ترفض الانكسار محولاً الألم إلى قوة والدم إلى حق والرماد إلى جدارية تخليد للذكرى ونداءً للمستقبل.
شكراً لك دكتور على مشاركة
هذا النص القوي والمؤثر.....
تحياتي واحترامي