نستالجيا المكان..
ها هي مدينة مكناس، تموج بربيعها الكاذب. وأنت وحدك ذلك الحلم الهارب بعيدا. صباح تطل فيه الشمس ثم تجيء العاصفة ويهطل المطر. لا شيء ثابت في هذه المدينة غير أشواقه إليها، غير ذاك الحنين الطافح بالبشرى، غير ذلك القلب يخفق على اسمها وصوتها وطلعتها بدون موعد.
هذه المدينة هل هي شيخوخة الحياة؟ لا يضيء فيها قمر ولا تنمو فيها شجرة أمل؟ ما تعقده الشمس تذروه الرياح، إذن، لا تتركي أيتها المدينة المرأة خطاك تتردد وأنت تملكين بساط ريح ينهب الأرض، ولا يهاب زحمة البشر فوق إسفلت الشوارع… تعالي فبيت تعبان بن تعبان يكتسي بالضياء من شعاع قدميك. أكيد أنه لا يرى الوجود بغير عينيك… لا تخافي.. إنه لا يملك لك حبا لا يموت، وحنينا لا ينام، وأحلاما لا حدود لنهايتها، وأمنيات عددها أكثر من عدد النجوم.. تعالي إليه متألقة كما أنت دائما، ناعمة كالقصيدة الهامسة شفافة كالدمع، نقية كالينابيع، جميلة كالشفق، خفيفة كالعصافير… تعالي إليه ليبثك لواعج الحنين، وصدق الرؤيا، ونشيد الحب الأصيل.
أمنياته لك كأجنحة الطاووس وقوس قزح، وبك يزهو فوق وهم الخوف، ويصطحب الحكمة من كلماتك الشاطئية التائهة يرسم بها معالم الطريق. والحب وحده منقذكما من الاهتراء والهشيم الذي حولكما، ومن هؤلاء البشر المتلونين، ومن طيش الصحاب وسذاجة الافتراءات.. يا تاج الغابات ومرايا البحر والأنهار، أنت صولجان القدر الساحر، وبسمة السفن لحظة الإبحار… أنت ذوائب السحب المغتربة تعود بالغيث للأرض البوار. تعبان هو الأرض وهو العطش، وأنت الزهر الأخضر في حضور الصيف.. أنت الأقحوان والياسمين والعطر الذي لم يصنع.. هو ذا معشوقك يعترف بحبك بكل حماقة الفتيان الصغار.. أنت يا ساكنة أبراج مدينة الزيتون أول وردة في الربيع وآخر وردة الربيع.. جذورك ضاربة في كل ارض خصيبة تطل في فصولها وردا وقمحا وتفاحا وليمونا.. أنت السلام والعتاب والخصم والحكم.
آه كيف يلوذ بك تعبان في ختام هذا العمر الذي لم يبق منه إلا أقله! ثلاثون سنة مرت سحابا جهاما فماذا بقي وأنت المحاطة بعذابات الغدر والخيانات؟ ألا ترين في وجهه صدق النبوءة وصدق الإصغاء لصوتك الفريد يروي عذابات الماضي؟ ألا ترين في عينيه حنين الهجوم إلى راحة كفك لحظة اللقاء؟ إذن ما الذي يجعلك تترددين؟…
يا أيتها المحصنة بالأسوار كالمدن القديمة، يا قلاع الجبال العالية المزدانة بمدافعها وبنادقها !. ها صدر تعبان مشرع لك، لن تمنعه بعد الآن عنك الأسوار ولا القلاع.. لن تمنعه عنك الجبال، ولا الوديان لا الجيوش بكل أسلحتها ولا وحوش الغابات.. ماذا سيصنع بذاكرته؟ لا، سيلتفت إلى الضفة الأخرى. سينتزع المسامير من عيني المسيح.. سيدمر نفسه وسيسحق قلبه بقدميه.. فغما أن يبعث من جديد أو يموت.. إما أن يحترق ثم ينبعث من الرماد، أو لا ينبعث، سيان عنده.. لكنه سيخط كل هذه العذابات في دفتر القدر، حتى يجيء يوم تقوم فيه الأجيال: ماذا فعلت هذه المرأة بهذا الفارس النبيل؟ أعطاها حبا ولم تعطه إلا هجرانها.. أعطاها أناشيد حب لم يكتبها شاعر من قبل ولم تعطه إلا إشارات.. أعطاها أسماء كل الأزهار في كل ربيع، ولم تعطه إلا الشوك يدمي الأصابع. أعطاها أسماء العطور والبحار وروعة الكواكب والنجوم والشمس والقمر، ولم تعطه إلا عتمة اليأس وجرح الابتهال… أعطاها الحب الجميل، ولم تعطه إلا حبها لهذا الحب، إلا تمتعها بمشهد الاستشهاد اليومي من أجل قبلتها، لمستها، ضحكتها، حركة أناملها ترسم لقاء في الفضاء. ولم يجد هذا العاشق في الختام إلا قبضة ريح…
هكذا يا تعبان بن تعبان تتكسر أمنياتك الرقيقة فوق جدار الواقع القاسي.. تحاول أن تسبر غور معاناتك بكتاباتك تستخرجها دفينة في صقيع أيامك… هل يكون الإنسان الرومانسي متخلفا في رأيكم معشر المحبين؟ عبثا يتعذب في عدم التلاؤم بين ما هو كائن.. وما يجب أن يكون.. لكن الذي يحصل أبدا هو نقيض الذي يريد.. فكيف له أن يبارك ما يكره..؟ ما جدوى الشواهد يا أيها المنهوك؟.. ما جدوى أن تقتفي آثار سعدي يوسف الناطق / الصامت؟. ألم تطرز سيرته يوما على يتم فضاء جريدتك المشتهاة « أنوال »؟ ألم تمارس حلولا صوفيا على نوطة عنوان استفزك حتى النخاع؟.. ألم.. ألم…
*- الدكتور عبد السلام فزازي- مكناس