lundi 7 juillet 2025

الأديبة فاطمة لغباري

الجـزء الثـالث والعشـرون من روايـة «صفـحـة من دفـتر قـديم»
(طقـوس اللقــاء المؤجـل)  

كنت يومهـا أتمـاهى بين هديـر الحلـم وهمـس اليقـظة؛ جسـدي خـامـد على فـراش غير مـألـوف، وروحـي هـائمـة في سـديم رمـادي يتـأرجح بين النعـاس والحـنين. 
 
ومـا إن لامس الفجـر جفـوني، حتى تنـاهى إليّ صوت أمـازيغـي رخـيم، كأنـه آتٍ من حلـم قـديم :

– " آ النعّـاسة بنـت المـدينـة... فيقـي ترافقيني للعـين نغـسل الملاحـف قبل مـا تطلـع الشمـس فالكْـدْيـة."

كان ذاك صوت "تـاوسـنـا"، خطيـبة "أمـنـاي".

مـا إن سمعـت صوتهـا، حتى نهضت وارتديـت ثيـابي على عجـل، دسست شعـري تحت منـديل قـروي، كما تفعـل بنـات الدوار، كأننـي أتشـبّث بذريعـة الانتمــاء.

سـرنـا معـا عبر الممـرات النـديـة. 
كانت الأرض لا تـزال تتنفـس أنفـاس الليـل الأخـيرة، وذهـني يجـر خـلفـه خـيط حلـم لم يكتمـل.
ولمـا بلغـنـا مجـرى النبــع، كانت النسـوة منغـمسات في طقـوس الغسـيل؛ ضحكاتـهن تتنـاثـر وسـط رذاذ بلـوري، وأحـاديثهـن تنسـاب كوشوشات جـدول وديـع يعـانق الحقـول، مشبعـة بمـلح الذكـريـات ودفء العشيـات القـديمة... تلك التي لا تُـروى إلا على هـامـش التعـب.
 
ترسّخـتُ على صخـرة نـاعـمة، حيث تُلـقي أغصان التـوت البـري بظلالهـا الخفـيفـة، شمّـرت عن سـاعـدي، ثم شرعـت أفـرك أرديتـي القـروية بصابـون الزيـت البلـدي. 
كانت الرغـوة البيضـاء تنسـاب برقـة، كأمـنية ضـالـة تسعـى إلى مـلاذ بين الحـصى المتنـاثـرة في قـاع النبــع.
وحـين فرغـنـا من الغسـيل، عـدنـا أدراجـنـا محمـولين على نسـائـم الصبـاح الأولـى، ونـدى الفـجـر مـا يزال يلمـع على أغصـان الزيتـون. 
تغلغلـت خـطواتنـا في طيـن رخـو، ورائحـة الأرض تسبقـنـا إلى البـاحـة. 
وفي ركـن من الفـنـاء، كانت "لالّـة تيضـا" جـالسـة بهـدوء على جلـد مـاعـز مدبـوغ، تنسـج الصـوف بحركات رتيـبة، فيما كان بخـار الشـاي يتصاعـد من إبـريـق نحـاسي عـتيق، يتمـازج مع دخـان الكـانـون وشـذى الأعشـاب البـرية العـابق في الزوايـا.
جلسـت على حـافـة المِصطبـة، وكسرتُ قطعـة خـبز شعـير خشـنة، لكنها سرعـان ما لانـت في فمـي تحت نكهـة زيـت الأرݣـان.
كـنت مـا أزال أرتشـف آخـر مـا تبقـى من كـأس الشـاي، حين اقتربـت مـني "تـاوسنـا"، وهمست بصوت خـافـت لا يخلـو من الحـسم :

– "بغـيتك ترافقـيني لدوار أغبـالو نشـوف يمّــا."

كانت نبـرتهـا تحمـل مـزيجـا خفـيّـا من الرجـاء والتـردد.
رمقتُهـا بصمـت، وفي عينيهـا بـوح لم تسعفـه الكلمـات، اكتفـيت بإيمـاءة خفـيفـة، وابتسامـة نـاعـسة بـدت لهـا كإذن صامـت بالموافقـة.
  
امتطينـا البغـل وسـرنـا معـا. 
كان الطريـق وعـرا، تتخلّلـه منحـدرات خضـراء ونتـوءات صخـرية لمّـاعـة تحت نـور الصبـاح البـاكـر. 
انحـرفنـا عن الـدرب، وسلكنـا ممـرا ترابيـا بـدا كأن لا وجهـة لـه.
مضينـا بصمـت متوجّـس، حتى انزاحـت أمـامنـا أشجـار اللـوز عند منعـطف صخـري.  
تـابعـنـا السيـر على الأقـدام، عـبر ممـر تـرابي ضيـق، يتلـوى بين الأحـراش. 
كانت "تـاوسنـا" تمـشي بثبـات، نظراتهـا تسـبق خـطـاهـا نحـو الأفـق، كأنهـا تقـرأ سطـورا خـفـيّة في سِفــر الغـيب. 
أمسكتْ بيـدي، وتقـدمنـا في صمـت خـاشـع نحـو شجـرة الخـروب المقـدسـة، وكانت أغصانهـا الوارفـة تتـدلّى كأنها تحـرس سـرا تنـاقلـتـه النسـاء في سـوس عـبر الأزمـنة.
أخـرجـتْ من ثنـايـا ثـوبهـا منـديلا أبيـض، مطرزا بخـيوط حمـراء، وقـالت بصوت خفـيض :

"نربطـو المنـديل فشي عـرگ من هـاد الشجـرة، وحنـا سـاكـتيـن، وكل وحـدة فينـا تتمـنى أمـنية... 
السّْكَـات فهاد اللحـظة فحال الدعــاء." 

لم أكن أؤمـن بتلك الطقـوس، لكنّ شيئـا مـا في عينيهـا أرغمـني على الامتثـال.
ربطنـا المـنديـل بصمـت، والتفـتّ نحـوهـا، رأيـت في عينـيهـا رجـاء لم أعهـده من قـبل. 
لم تكن تأمـل الزواج فقط، بل كانت تتشبّث بأمـل أعمـق، كخـيط رفـيع يربطهـا بالنجـاة من تيـه الحـيـاة.

عقـب سكون شفـيف، سـرنـا على ذات المسلك التـرابـي حتى لاحـت لنـا بيـوت دوار أغبـالو من بعـيد، كحلـم قـديم، يتسلل من فجـوة في الذاكـرة. 
وحين بلغـنـا تخـومـه، ترجّـلنـا عن ظهـر البغـل، ثـم أشـارت بيدهـا إلى هضبـة تنـزوي على ضفّـة الـوادي، ابتسمـتْ وهمست :

– "خـودي هاد العـتْلـة لأمـنـاي، راه لاهـي فجـنب الخـيمـة... نشـوف يمّــا ونجـيك."

نـاولتنـي إيـاهـا ثم مضـت في صمـت واثـق، وخلّفـتني وحـيدة في فسحـة تـرابيـة تتفــيّـأ ظـل صفـصافـة سـامقـة، تُنبـت عند جـذعهـا أزهـار البرسـيم كأنها تبشّـر بربيـع جـديد.

خطوت نحو الهضبـة، وقلبي يئـنّ بصمـت مكتـوم، كمـن يطـرق بـابـا مفـتوحـا على فـراغ مجهـول.
كان السكون يُخِـيم على المكـان، لا يكسره سـوى نبـاح بعـيد يخترق صمت الأرجـاء، ونسيـم علـيل ينساب بين السنـابل المـائلـة، محمّـلا بنفحـات الربيـع في وداعـه الأخـير.
ومـا إن بلغـتُ السـاحـة، حتى انفـتح المشهـد أمـامي كصفـحة حلـم مشرعـة.
هتـافـات أطفـال تتقـافز مع هديـر الريـح، وملعـب مرتجـل يحتضن أحـلامـا صغـيرة تلهـث خلـف الكـرة بحمـاس بـريء. 
وفي خضم ذلك الهديـر، داهمـني حضـوره.  

كان هـو... حسـن !
 
واقفـا وسط المـيدان، بزيّـه الريـاضي وابتسـامـته تلك... التي علقـت في ذاكـرتي كوشـم قـديم لا يمحـوه الزمـن.
كان منغـمسـا في تـأطيـر التمـارين بحمـاسـه المعـتـاد، ويلـوّح بحـركـاتـه المألـوفة، غـافـلا عن وجـودي، لكن حضـوره انسـاب داخـلي، فاخـترق كل فـراغ خلّـفـه الغـيـاب.
تجمّـدت في مكـاني، كأن الزمـن لم يفصـل بين لحـظتنـا.

تدفّقـت الذكـريـات دفعـة واحـدة، كشريط قـديم يعــيد نفـسـه :

من النظـرة الأولى بين رفـوف السـوبر مـاركت، إلى الليلـة البيضـاء التي جمعـتنـا على مـتن القطـار الليـلي، مـرورا بخطواتنـا المترنّحـة في درب السلطـان، وجـلسـاتنـا الطويلـة في مقـهى الأمـيريـة، ثم القـبلات التي تبـادلنـاهـا خـلسـة تحت ستـار فيلـم غـابر في سينمـا لانكس...
وكأننـا كنـا نتـوارى عن العـالم داخـل ذاكـرة خفـيّة لا يُطلّ عليهـا سـوانـا.

وفجـأة، التفـتَ إليّ.
تقـاطعـت نظراتنـا في صمـت مشحـون بالدهشـة والحـنين، وكأن الزمـن توقـف ليشهـد اللقــاء بعـد طول غـيـاب. 
رفـع حـاجـبيه ببـطء، رمقـني بنظـرة متأمـلة، ثم تقـدم نحـوي بخـطى وئـيدة، فانفلـتت مـنه ضحـكة مشـوبـة بعفـوية دافـئة، كأنها تحـاول أن تخفـف من رهـبة اللحـظة :   
 
  – "أحـقـا أنتِ فـاطمـة ؟ بهذا الـزيّ القـروي ؟!"
  كنتِ هنـاك... في تـركـا انجـاعف، مـا الـذي...؟"

تلعـثم صوتـه للحـظة، كأنـه ارتبـك من هيئـة لم يعـتدهـا عليّ. 
لم أجـد سـوى ابتسامـة خجـولة أخـفي بهـا ارتبـاكي خلـف مـزاح خفـيف :

– "إنها مؤامـرة صغـيرة من تـاوسنـا... تلك الرقيقـة المـاكـرة، لم تُفـصح عن شـيء.
ألبستني هذا... كما لو كنت سـائـرة صوب حقـول حصـاد الشعـير..."

توقـف لوهلـة، كأن الزمـن هو الآخـر كبـا عند قدمـيه، ثم راح يتـأملـني .... همـس بصوت خـافـت :

–"حتى في هـذا الـزّيّ... لا يمكن لفـاطمـة أن تُخـفي حقـيقـتهـا."

ضحكنـا سـويـا،  
 وفي تلك اللحـظة، هَـوتْ أولـى زخـات المطـر الربيـعي الأخـيرة، كأنهـا تطهـر مـا تراكـم من وجـع الغـيـاب.   

نظـرت إليه طـويلا، كأنني أستعـيد أنفـاسي المبعـثرة، ثـم همسـت :

– "مـا إن وقعـت عينـاي عليك، حتى خـفّ هديـر الغيـاب في داخـلي.
وهـا أنـا أتنفـسك من جـديـد، كأن القلـب لم يضـق بانكسـار البعــد يـومـا."

ابتسـم، وفي عينـيه ومـيض من الذهـول، ثم ردّ عليّ بنبـرة رخـيمة :

– "حين لمحـتكِ، أدركـت أن البعــد لم يكن سـوى فصـلا عـابـرا أمْـلَـته علينـا الحـيـاة لتخـتبر صبـر الحكـاية."

ولم تمـضِ لحـظة حتى اقـترب مـني بخـطى هـادئـة، فـتح ذراعـيه، فاهتـز قلـبي بحـنين طفـوليّ مبـاغـت أجـهشـني بالبكـاء؛ ثم ارتمـيت في عنـاقـه كمـن تعـود إلى حضـن وطـنهـا بعـد تيـه طويـل.

ذاك العـنـاق كان لحـظة استعـادة نـابعـة من عمـق الفقـد، لحكـايـة صـمدت رغـم شـرخ الغـيـاب.

آنـذاك، تحـت وشـاح المطــر، انفـتح المشهـد أمـامـي كصفـحـة من دفـتر قـديم، كأنمـا نُزعـت من نـافـذة الربـاط العتيقـة، لتُـروى من جـديد بلغــة أخـرى.
همسـت لـه بنبـرة ملـؤهـا الحـنين :

–"مـذ غـبتَ عـني، اخـتلّ الزمـن من حـولي، وتبعـثرت ملامـح التفـاصيل الصغـيرة."

أجـاب بنبـرة خـافـتة :

–"وهـا نحـن اليـوم، في حـضن المطــر، نعــيد نسـج الحكـاية، ونبـذر مـا تبقـى من الأمـل على أعـتـاب الغــد."

خلـف مسـافـة خفـيّة، أزهـرت على وجـه "تـاوسنـا" ابتسـامـة وادعـة، تشـي بأنهـا تترقـب اللقــاء بعـين العـارفـة. 
أمـا أمـنـاي، فقد تمـاهى مع ظلال السنـابل عـند تخـوم البيـدر، كأن الأرض أخـفـته بين أحضـانهـا الصـامـتة.

 وبين همـس المطـر ودفء العـنـاق، ارتجّـت في داخـلي تسـاؤلات مبهمـة :

– هل وهبـتنـا الحـيـاة بدايـة جـديـدة...
أم أننـا نعــيد قـراءة ذات الصفـحـة، لكن بنبـض مخـتلـف ؟

مـدّ يـده نحـوي، وهمـس بنبـرة دافـئة:

– "فلنمـضِ مع المطـر، عـلّ البـدايـات تُزهـر لنـا مـا لا يشـبه بعض النهـايـات." 

سـرت إلى جـانبـه... لا عهـد يجمـعنـا سـوى صمـتٍ يوغـل في الأعمـاق كقَـسـمٍ غير منطوق. 
وخلفـي، تركـتُ أبـواب الأسئلـة مواربـة على احتمـالات معلّقـة، 
فامـتدّ أمـامنـا فصـل جـديد، لا يزال حـبيس البيـاض...

تلك الأسـئلة كانت ترتـدّ في داخـلي كأصـداء بعـيدة، تنبعـث من عمـق اللحـظة :

– أيمكـن للفصل الأخـير أن يبلـغ نهـايتـه، دون أن يتهجّـى الحـنين عـنوان الصفـحـة الأولـى...
أم أن الحكـايـات التي لـم تكتمـل، تظل ترافقـنـا على هـامش السطـور، لتـدركنـا حين نوهِـم أنفسنـا أننـا تجـاوزنـاهـا ؟

وربمـا... وحـده الزمـن من يُتقـن ترتـيب النهـايـات، حين يبهـت من الذاكـرة مطلـع الحكـاية. 

يتبــع...

✍🏻 فاطمة لغباري

سلطان فؤاد

كان أبي تاجر أحزان يعلقنا كل صباح بكلاليبٍ أمام دكانه فنتدلى أنا وإخوتي امام الناس كما الخرفان بضاعته مزجاة، كاسدة وفي آخر النهار يجمع غلته ...