هذه القصيدة تتأمل فكرة الرحيل والانتماء، وتسبر أغوار الهويات الممزقة، باحثة عن معنى في ظل قطيعة تتجاوز الفراق المادي والزمني. إنها رحلة داخل الذات، حيث تتداخل الذكريات والهواجس، ويتردد السؤال الأكبر مثل صدى لا ينطفئ: هل يمكننا الهروب من أنفسنا، أو من الأوطان التي نتركها، أم أننا نولد ونحيا معلقين بخيط عنكبوتي بين الغربة والبحث عن موطن للروح؟
كاد نجمُ ان يهاجر ويترك ثقبا في السماء.
⸻
نبض القطيعة
قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي
دريسدن – 27.09.2023 | نُقّحت 03.09.2025
1
يا أساطيرَ الحضارات…
من أيِّ حضارةٍ جئنا لنلتهمَ الفجيعةَ تلو الفجيعة؟
كأننا عنقودٌ معلّقٌ على شجرةِ الأحزان،
يقطر صمغًا فيغلف به ذبابَ النسيان.
نترجّل عن المسير،
ولا يهمُّ أيُّ بحرٍ يغرقنا،
ولا يهمُّ الغريقَ بأيِّ بحرٍ يغرق.
نواكب التيه، وكأن التيه صار طريقنا،
ينحني مثل أعناقنا، ويتلوى مثل خصرٍ أرهقه الجسد.
نبعث رسائل لأنفسنا،
فتأتينا الأجوبة من النجوم:
ابقَوا لنراكم جسدًا للزمن.
ويهمس لنا الخوف: الرحيلُ قد بدأ… ونحن في صراع.
كانت القطيعةُ الكونيةُ فشلًا،
منذ همَّ نجمٌ أن يترك بيتَه في حدائق السماء،
ويهبطَ باحثًا عن عرشٍ بهيجٍ في الأرض،
مقتنعًا بعدالةِ الحياة بين الصنوبر وبساتين البرقوق.
ربما يكون محقًّا، ولكن… هل اعتاد الوردُ وظلالُ الزيتون؟
قرأ في فلسفةِ نوره:
“أن تكون مختلفًا عمّا يكونون… ستكون غريبًا، شجاعًا، تكمل أسطوره.”
فأحبَّ النجم المغامرة،
لم يرَ غبارًا ثقيلًا يلفّه من زوبعةٍ تائهة،
وبركانًا مقصودًا من ألغام الطغاة،
ولا شحَّ العطف في زمن التوسل،
ولا غيظًا يبيت فيه ويصحو على أشواك.
دفعته التجربةُ ليكون غيرَ ما يكونون:
نجمًا أرضيًّا يرى النجوم مثلنا… ويتعلّم اليأس،
والأمل.
2
كنتُ مستلقيًا على سطح البيت،
بعد أن هرب النعاس، وكأنه لم يأتِ منذ ولادة الأرق،
وتركني في فقاعة الأفكار المملة.
أحوم فوق نفسي كشرطيٍّ مدرَّب لحراسة أشباح الليل،
أسمعهم يحذّرون النجمَ الهارب:
“ستسقط على قمم الجبال، وتتدحرج مثل حجرٍ أحمق،
أو تقع في فوهات البراكين،
وتذوب مثل معجون الصابون،
أو تظلّ معلّقًا بلا حبل؛ الأرض ترفض والسماء تشدّك.
لم تتعلّم الخوف، ولا حتى البهجة بعد اليأس.
الخوفُ شيءٌ لا بدّ من تعلّمه.
ماذا تعرف عن أخلاق الإنسان وفضيلته؟
يمكنك أن تشرب البحر، ولكنك ستعجز عن فهم الضمير.
ينافقون حتى ترى بمدحهم الأسودَ بنفسجيًّا،
وتتخبّط بين الشك واليقين،
وربما تصرف عمرك في الخيبة.
تعلّم أن الخيبة نهاية الفشل وتُلغى.”
ترددت أصواتهم صدى داخل نفسي،
إنهم محقّون، ولأوّل مرة أرى صدق الأشباح.
الأرض لها أصحابها، لن يقبلوا النجمَ دخيلًا.
هل يستطيع شمَّ الورد،
ومراقبة النحلات من زهرةٍ إلى زهرة؟
هل فيه شفقةٌ تضاهي شفقةَ الثمر؟
كيف سيفهم حبَّ النمل لمملكةٍ ليس له فيها سوى الشقاء،
لكنه يجيد المبيت فيها،
حتى ولو رأى عشًّا لعصفورٍ
مليئًا بالريش والزغب، ملاذًا دافئًا يهزه الغصن ؟
سيبقى وفيًّا لثقب الأرض وممالك المجهول.
ابقَ نجمًا لنراك يا نجم،
فلن تصير حجرًا منيرًا وفريدًا،
يتقاتلون عليك لينحتوا منك تماثيلَهم.
3
أنتَ حرٌّ في النهاية.
سترافق الغيوم، ويبللك المطر، وستدرك
أن القطيعة لها ألوانٌ لا يُبصرها سوى القليل.
فلا تبحث عن لونٍ واحد… كي لا تكتشف غباءك متأخرًا، وتضيع في غبارك.
الذين ماتوا قبل الوصول إلى فهم الوصول الكلّي،
إلى الطمأنينة… إلى الصدور المشرعة مثل أشرعة القوارب
في بحرٍ لا ينتهي بشاطئٍ واحد،
سيتخذون من سقوطك مادةً لفلسفة الفشل.
كم مرّة ستندم وحدك؟
وستندم مثلنا، فلا فرق بين نجمٍ ساقط
وإنسانٍ يسقط منذ الولادة على نفس الأرض.
تلتقطه وجوهٌ تراه زائداً عن الوجود،
نسميهم قساة وأوغاد.
أحيانًا تُغرينا الأقلام، والدفاتر، والحروف،
والفلسفة التي نفاها الطغاة،
لكن القطيعة تقتلنا، تمزّقنا، ولا ترحم.
حتى لو سهّلتَ على نفسك الرحيل،
سنلحق مثلك بحلمٍ كان يحمل في طيّاته القطيعة،
مثل رسالةٍ تركت تبحث عن عنوان…
بهتت، تمزّقت، ضاع الورق… وبقي القلم مخدوعًا،
وقد نسي ماذا كتب.
4
كل الأشباح صرخوا معًا،
متوجّهين بأبصارهم نحوي، أنا الجالس على سطح داري،
أمقت القطيعة والرحيل، فقالوا:
“حدّثه عن الرحيل قبل أن نفقد نجمًا نحبّه،
ونندم إن كان في مكان غير ما يكون.”
قلتُ، والدموع تنسكب كغيمةٍ حطّت على وجهي:
“لم نعد نرغب بالمغادرة ولا بالحديث عن الرحيل،
لدينا وطن فيه الكمال، في أرضه وفي السماء.
فكلّ ظلال الكهوف السوداء أخذت معها متاعها،
من نسيج الضجر وحقائب الوهم المغلّفة برقائق الحيرة…
ورحلت ونحن باقون.
دعوه يفكّر، ما أروع أن يفكر وهو في روعته يسبقنا.
أرجوكم… حدّثوني أنا لأتحدّث عن البهجة،
عن رحيل الخوف.
لقد أعدنا ترتيب أهدافنا لنكون سعداء،
تفاحةٌ في بحر، كأنها لؤلؤةٌ في السماء،
وطريقٌ على جبل يكشف لنا مخابئ البهجة
بين طيات الصخور.
المنكرون للخير سيبقون في متاهة الانحدار،
ونحن منشغلون بين ترتيب أهدافنا والحدود المغلقة…
تلوح لنا الحقيقة، فننتبه…
على رطوبة الشفاه يرقد عطرُ الأنفس،
وبين راحة الكفين يمتد الأفق،
نضحك للفوز على مباراة لم تحدث.
فلا داعي للقلق.
نعدّ قهوتنا احتفاءً بكمال الوفاء.
ندمنا حين صارت أسماؤنا هويةَ الحدود المغلقة،
وصارت وجوهنا استنفارًا دائمًا للأسلاك الشائكة،
وعين الدول ترانا من فوق القمر،
والنجم صامت.
دخلنا العالم دون هوية، دون كلام،
متسوّلون الشفقة، والسؤال المحيّر:
إلى أين؟ وحتى متى؟
أبكي نفسي مع الأشباح؟
ياليتني أبكيها بين النجوم ولو مرّة.
5
نعبرُ الحدودَ كأنها ظلال النكبات وخطوطٌ تصرخ:
من أنت؟
لا زراعةَ في أيدينا، ولا حصاد،
وكل أشجارنا متروكة للقدر.
الهجرةُ قصيدةٌ يكتبها غرور الهروب،
فتنطفئ فيها الكلماتُ قبل أن تضيء.
خجلنا من ضوء النجوم،
ولم نستحِ من هواءٍ مثقلٍ بغربةٍ لا تنام.
وللوطن أسوارٌ من خزامى،
وقبابٌ من بيلسان،
ومن كل حجرٍ تُبنى البيوت،
ويُخطّ التاريخُ بأصابعٍ لا تُحصى.
وقلادةُ الغربة تتدلّى من عنقنا
بخيطٍ عنكبوتي،
كلما حاولنا شدّها… ازداد وهنًا، ونخشى أن نتبعثر.
ويبقى السؤال معلّقًا،
ويتردّد بيننا مثل صدى لا ينطفئ:
إلى أين؟
نحن الغرباء… نصفنا عارٍ،
والنصف الآخر في قلق،
ونستمر في البحث عن موطنٍ للروح،
وكأننا خُلقنا في الهواء معلّقين بجسرٍ
بين النجمة والنقمة.
ابقَ يا نجم مكانك،
كل الهجرات فشل، والفشل يستوطننا،
ويستوطن الزوايا من حولك،
فلدينا ما يكفي لكي نحلم بسكينتك.
طاهر عرابي – دريسدن