فدوى طوقان (1914م)
سفيرة الشعر العربي في زمن المصاعب، نبتت الشاعرة (فدوى طوقان) في بيت أرضه موطن خصب للشعر، فأخوها الشاعر العربي الكبير إبراهيم طوقان، وأخوها الأكبر أحمد أستاذاً للعلوم والفيزياء ولكنه قارئ فَهِمٌ ومثقف مشبع برائحة الشعر العطر ومتذوق جيد له، ولذلك وجدت (فدوى) نفسها تخوض غمار نسائم الشعر العطرة منذ صباها الأول، وقد كتبت فدوى بيدها سيرتها الذاتية فحدثتنا عن طفولتها الأولى وكيف عاشتها في جو مليء بالمنغصات من جهة ويفوح بعطر الشعر والأدب من زاوية أخرى. فلنرَ ما كتبته تلك الشاعرة الفذة.
تقول فدوى: "ولدت في نابلس عام 1914م وتعلمت في مدارسها ولكن ومنذ أن فتحت عينيّ على الدنيا عرفت السيدة (ش) "هكذا سمتها في مذكراتها" وهي صاحبة الهيبة والسلطة على نساء العائلة وكأنها البوليس السري الذي يعمل لحساب أبناء عمي ويقدم لهم التقارير بما يجري في البيت". في ظل هذا الجو القمعي كانت تعيش فدوى فنشأ في نفسها صراع مرير بين الخضوع الإجباري الذي كانت تلتزم به المرأة في ذلك العصر والتمرد الذي كان العمود الصلب الذي تتمسك به في وجه هذه الممارسات القمعية.
وتكمل فدوى حديثها عن هذه السيدة التي يبدو أنها قريبتها التي لها دالة على كل الأسرة فتقول: "في السادسة عشرة من عمرها عادت (ش) إلى بيت أبيها مطلقة بعد زواج فاشل، وفي أيام شبابها اتخذت من طريقة الشيخ عبد القادر الكيلاني ملاذاً دينياً تهرب إليه من إحباطها النفسي بفعل الزواج، وزاد في عزلتها وهروبها باتجاه الأفكار المتطرفة نزول رجل مصري ضرير من أصحاب الطريقة الكيلانية استقطب بعض مطلقات القرية وأراملها وراح يعقد حلقات الذكر في بيت (مدير المال) مما جعله يسلب عقل أولئك النسوة ومنهن (ش) أما جدتي وولدتي فانكرن هذه المظاهر ورفضنها، فنشأ عن هذه المواقف كره شديد بين عائلتي والسيدة (ش). ولشدة تأثير هذه السيدة على والدي وبقية أعمامي تعرضنا لحملة شديدة من القهر والقمع، لولا أن أخي احمد كان يقف إلى جانبي في كثير من الأحيان (وكانت تكن لأحمد أخي محبة واحتراماً) فاستطاع أن يبعد عني شرها المستطير".
ثم تمضي فدوى طوقان بالحديث عنها وماذا تعلمت منها وكيف استطاعت أن تتجنب تسلطها، وتنتقل بعد ذلك إلى الحديث عن نسبها فترة أنها تنتسب (كما سمعت من أبيها وإخوتها) إلى أسرة آل طوقان الذين ينحدرون من عشيرة الموالي التي تسكن في بادية الشام بين مدينتي حمص وحماة وأن هناك تلاّ لا زال باسمهم يسمى (تل طوقان).
ثم تتحدث عن رفيقة طفولتها (علياء) التي كانت تكبرها بأربعة أعوام وكانت على انسجام تام معها وكانت تخرج معها إلى (رأس العين) حيث كانت تسكن خالة (علياء) في بيت منعزل تحيط به الأشجار والبساتين التي تكاد تخفيه عن الأعين، فكانت تشعر بغبطة كبيرة وهي تملأ نظرها بمنظر هذا الجمال البري المحيط بالمنزل، وكان مما يزيد في سعادتها لحظات الحرية والانطلاق التي كانت تشعر بها وهي مع (علياء) في هذا الجو الطبيعي الجميل.
ومن خلال (علياء) صديقتها تعرفت على وجوه أخرى كثيرة في بلدتها وعلى إيقاعات الحياة فيها والتي لولا مرافقتها لها ما كانت لتعرفها. فقد عرفتها على الأفراح الاجتماعية كالأعراس والموالد وأفراح الحج، وختم القرآن وميلاد الأطفال الذكور والختان وغيرها.
وننتقل إلى مرحلة متقدمة من حياة فدوى، فنراها تتدرج في كتاباتها الشعرية فتتقدم بسرعة كبيرة، وهذا ما صرح به أخوها إبراهيم.
تقول فدوى معبرة عن ذلك: "يبدو لي من خلال رسائل أخي إبراهيم التي كان يبعث بها إليّ من بيروت خلال العامين 1931-1932م أنني كنت أتقدم بسرعة لا أكاد الآن أصدقها. فها هي رسائله تكشف لي أنني أبحت خلال عامين قادرة على كتابة رسائل وقصائد سليمة من عيوب الصرف والنحو والعروض. وهذه بلا ريب فترة قصيرة بالنسبة لنقطة الصفر التي انطلقت منها ويضاف إلى هذا حقيقة أخرى هي عدم وجود من يوجهني في البيت أو يساعدني" وتتابع: "إذ أن أخي قام بزيارتنا ذات يوم وبمحض الصدفة وقعت يده على قصيدة كنت أنظمها في ذلك الحين فأثنى على جودتها، ولفت نظري إلى عيوب قليلة في بعض قوافيها وتفاعيلها".
وقد تأثرت شاعرتنا (فدوى طوقان) في بداياتها بابن الرومي وبخاصة قصيدته الدالية التي يرثي فيها ابنه الأوسط، فكتبت قصيدة تبدي فيها شوقها لأخيها إبراهيم على نفس الروي والبحر فتقول:
لقد زاد في قلبي اشتياقي من البعد
فهل عند إبراهيم مثل الذي عندي
أقول لعين تشتهي النوم كفكفي
دموعك قبلاً تستريحي من السهد
ألا ليت شعري هل تجيء ديارنا
فيذهب ما يلقاه قلبي من الوجد
وتقول فدوى:
وفوجئت بالقصيدة ذات صباح منشورة في جريدة (مرآة الشرق) التي كان يصدرها في القدس الصحفي الفلسطيني الأستاذ (بولس شحادة).
وتكمل "لم تفرحني المفاجأة العظمى، بل صعقتني، وربض على قلبي هّمٌّ ثقيل، ما هذا؟ اسمي في الجريدة؟ كيف سيكون وقع الأمر الخطير على أبي؟ حتماً سيحرم عليّ كتابة الشعر بعد اليوم".
وبقيت تحت كابوس الخوف من أن يعرف أبوها ما حصل حتى فوجئت به وهو يدخل البيت فلا يكلمها ولا يظهر أي شيء يثير خوفها واضطرابها.
وفي صيف 1932م استقال أخوها إبراهيم من عمله في الجامعة الأمريكية في بيروت وعاد إلى القدس ليعمل مدرساً، فاصطحب معه أخته فدوى وأقاما معاً في بيت أخيها أحمد، وراحت تعنى بشؤون أخيها إبراهيم بالإضافة إلى انكبابها على محاولات نظم الشعر، إلا أن مرض أخيها إبراهيم شغلها عن كل شيء، وبقيت كذلك حتى شفي إبراهيم من مرضه، ثم استقر إبراهيم مع شقيقته في نابلس مرة أخرى وراح يعمل في دائرة البلدية، وتحول مع الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وعبد الرحيم محمود صديقه وتلميذه إلى عنوان للشعر الوطني والاجتماعي الرافض للاحتلال الإنكليزي والهجرة اليهودية.
وقد حاولت فدوى طوقان في هذه الفترة أن تقلد أخاها إبراهيم في كتابة الشعر الوطني، فكتبت عدة قصائد نشر بعضها في مجلة (الأمالي) للدكتور عمر فروخ الذي كان صديقاً لإبراهيم طوقان، وكانت هذه القصائد في حقيقتها تقليد لشعراء أمثال البحتري وأبي تمام، ولكنها كانت تظهر قدرتها في النظم الشعري، ولم تكن شاعرتنا تسلم من تعريض عمتها السيدة (ش) التي كانت تلاحقها دائماً بملاحظاتها وتعريضاتها إلا أنها كفت عن ذلك عندما أصبحت تحت جنح أخيها إبراهيم وتعيش فدوى في تلك الفترة في دوامة الإضرابات والثورات المتلاحقة التي تشتعل في كل فلسطين من ثورة القسام إلى الثورة الكبرى عام 1936م إلى ثورة القاوقجي التي ألهبت مشاعرها فتكتب قصيدة معبرة عن إعجابها بشخصية القائد القاوقجي منها هذا البيت:
بطل الأبطال يا زين الشباب هات حدثنا عن الأمر العجاب
ومع كل العوائق التي كانت تعترضها فقد ناضلت من أجل الوصول إلى هدفها.
تقول فدوى: "ومع أن المثبطات كانت تكتنفني وتتعقب خطواتي فقد كنت أحس بقوة نفسية وروحية تدفعني إلى الأمام وكان أخي إبراهيم مصدر هذه القوة". وتتابع: "وقد حصلت من اللغة الإنكليزية قدراً مكنني من مطالعة أدبها وشعرها، ولا أزال مكبة على دراستها والاستفادة من مطالعاتي الخاصة فيها، وأنا أهتم بالقصص العالمية من ناحية والموضوعات النفسية والفلسفية من ناحية أخرى، وفي مكتبتي زاوية تحتوي غير قليل من كتب علم النفس والفلسفة".
وقد انجذبت بمشاعرها وأحاسيسها إلى الأدب المهجري الذي ينبع من أغوار النفس، وينطلق من أسر الزخارف اللفظية إلى فضاء الروح.
وكانت وفاة شقيقها إبراهيم بمثابة الضربة القاسية التي أهوى بها القدر عليها ففجر في نفسها ينبوع ألم لا ينطفئ.
وشهدت فدوى المآسي التي وقع فيها وطنها فلسطين فعاشت هذه المآسي وعبرت عنها بشعرها أصدق تعبير.
لقد كان للبيئة التي عاشت فيها فدوى طوقان ولأخيها إبراهيم وللأحداث التي مرت بها أمتها أكبر الأثر في صقل موهبتها الشعرية فكانت عوامل البيئة التي عاشتها في نابلس والقدس، ثم إحساسها بالوحدة بعد فقد أخيها إبراهيم، وللتقاليد التي كبلت مسيرة حياتها، هي المحرض الحقيقي الذي فجر فيها ينابيع الشعر بأغراضه المختلفة التي عبرت فيها عن مأساة حياتها وحياة أمتها.
ففي قصيدة حياة تصف لنا فدوى مسيرة حياتها المكبلة بالأسى والدموع والشوق إلى عالم أفضل فتقول:
حياتي دموع
وقلب وَلُوع
وشوق، وديوان شعر،وعود
حياتي، حياتي أسى كلها
إذا ما تلاشى غدا ظلها
سيبقى على الأرض منه صدى
يردد صوتي هنا منشدا
حياتي دموع
وقلب ولوع
وشوق، وديوان شعر، وعود
وفي ليل سهدي
يحرك وجدي
أخ كان نبع حياة وحب
وكان الضياء لعيني وقلبي
وهبّت رياحُ الردى العاتيه
وأطفأت الشعلة الغالية
ولا نور يهدي
الجلج حيرى بهذا الوجود
يضيع شذاه بأسر القيود
وأطرق رأسي
بوحشة يأسي
وفي الروح تصخب أشواقها
وفي النفس ترعد آفاقها
وأفزع للشعر سلوة روحي
أصور أشواق عمر ذبيح
فيهدا حسي
وتخشع نفسي
وتسكن لهفة روحي الشريد
وتسكن ذكرى أخيها إبراهيم في وجدانها فلا تنساه أبداً فهو حبها الذي لا يهدأ وشوقها الذي لا ينتهي، ولذلك فهي تناجيه في حلها وترحالها وفي يقظتها ومنامها وخيالها تقول:
أخي يا أحبّ نداء يرفُّ على شفتي مُتقلا بالحنان
أخي لك نجواي مهما ارتطمت بقيد المكان وقيد الزمان
أحقاً يحولُ الرَّدى بيننا ويفصلني عنك سجن كياني
فما لي إذا ما ذكرتك أشعر إنك حولي بكل مكان
أحسُّ وجودك أومن أنّك تسمع صوتي هُنا وتراني
وكم طائفٍ منك طاف بروحي إذا ما الكرى لفني وحواني
أخي أمس والليلُ يعمقُ غوراً ويحضنُ قلب الوجود الكبير
وذكراك تغمرُ أقطار نفسي وتملأ قلبي بغيضٍ غميرِ
تفلّت بين انعتاق الرُّؤى خيالك في غفوةٍ من شعوري
تحدّر من شرفات الخلود على هودج من غمام وثيرِ
ومع إحساسها الكبير بالألم الذي كان يحيط بها من كل جوانب حياتها، رأت في نضال المقاومة الفلسطينية بعد النكسة في حزيران أملاً يتجدد وبسمةً ترتسم فوق جبهة المستقبل، فتمسح عن عينيها دموع الحزن، ويتجدد إيمانها بهم وبالوطن، تقول فدوى:
أحبائي... مسحت عن الجفون ضبابة الدمع الرمادية
لألقاكم..
وفي عيني نور الحب والإيمان
بكم.. بالأرض.. بالإنسان.
فوا خجلي لو أني جئت ألقاكم
وحفني راعش مبلول
وقلبي يائس مخذول
لقد كان شعر فدوى طوقان الصوت الذي يطرب العرب بصداحه وغنائه الحزين الذي يصور آلام الأمة وأحزانها، وكان السجل الخالد لبطولات المجاهدين من أبناء فلسطين الذين قدموا أرواحهم فداءً لأمتهم.
د عبد الحميد ديوان